الحديث عن نهر اليرموك، الذي يُعد من أبرز مصادر المياه للشعبين السوري والأردني، قد يبدو كأنما هو مجرد تقرير جاف حول مصادر المياه في المنطقة، ولكن الحقيقة أن هذا النهر كان وما يزال يمثل عنصرًا حيويًا في معركة من أجل البقاء، لا سيما في سوريا والأردن. مع سيطرة الجيش الإسرائيلي على حوض نهر اليرموك، الذي يوفر المياه للعديد من المناطق، بات من الواضح أن الهدف من هذه السيطرة لا يقتصر على مجرد توسيع النفوذ العسكري، بل يمتد ليشمل سرقة المصادر الطبيعية التي تشكل الحياة لأمم كاملة.
في الوقت الذي انشغل فيه الكثيرون في متابعة أخبار تشكيل الحكومة السورية من قبل أو تصريحات القيادات في الشمال السوري، لم يكن أحد منتبهًا إلى أن القوات الإسرائيلية قد اقتحمت جنوب سوريا، وتوغلت مسافة 9 كيلومترات حتى وصلت إلى سد “الوحدة”، الذي يحجز ما يزيد عن 225 مليون متر مكعب من مياه نهر اليرموك، وهو ما يعني أن الإسرائيليين سرقوا كمية ضخمة من المياه التي كانت ستغذي الشعبين السوري والأردني. هذا السد ليس سوى جزء من منظومة مائية أوسع يمتد على طول نهر اليرموك، ليصل الإجمالي المسروق إلى ما يقارب مليار متر مكعب من المياه، بالإضافة إلى موارد أخرى مثل مياه هضبة الجولان وبحيرة طبرية.
ما يثير التساؤل هنا هو: كيف استطاع الجيش الإسرائيلي أن يسيطر على هذا المصدر الحيوي للمياه؟ وكيف تزامن هذا مع سيطرة فصائل المعارضة السورية في وقت سابق على هذا الحوض الحيوي؟ الحقيقة أن السيطرة على منابع المياه هي من أقدم القضايا التي تنازع عليها الجميع في هذه المنطقة، فكل من يسيطر على المياه، يسيطر على الأرض. وقد بُذلت جهود سياسية ودبلوماسية طويلة بين سوريا والأردن لحل مسألة تقسيم مياه اليرموك، حيث تم التوصل إلى اتفاقية في 1953، أعيد تعديلها في 1987، ولكن مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، ازدادت الفوضى وتدخلت القوى الأجنبية، لتصبح السيطرة على المياه مصدرًا للصراع المستمر.
إقرأ أيضا : كيف تسعى منظمة “أوري تسافون” لتوسيع حدود إسرائيل على حساب لبنان؟
لكن إسرائيل لم تقتصر على سرقة مياه نهر اليرموك فقط، بل كانت جزءًا من خطة استراتيجية طويلة الأمد بدأت مع بداية تأسيس الدولة العبرية، منذ عام 1873، عندما أرسلت بريطانيا لجنة علمية لفلسطين لبحث مصادر المياه فيها، بدأ التخطيط لاحتلال هذه الموارد المائية. كان أحد الأهداف الرئيسية للصهيونية هو السيطرة على منابع المياه لضمان الاستقلال الزراعي والاقتصادي.
وقد قام مؤسس الحركة الصهيونية، ثيودور هرتزل، بالضغط على بريطانيا لضمان أن تكون فلسطين غنية بالموارد المائية، واستمرت هذه الخطط على مر العقود، وظهرت أكثر وضوحًا مع اتفاقية “سايكس بيكو” عام 1916، التي قسمت مناطق النفوذ في الشرق الأوسط بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، وسمحت لإسرائيل بتوسيع أطماعها في السيطرة على منابع المياه السورية واللبنانية، مثل نهر الليطاني ونهر اليرموك، إضافة إلى هضبة الجولان ونهر الأردن. ورغم أن إسرائيل لم تتمكن من السيطرة على كل هذه الموارد المائية فورًا، إلا أنها استمرت في تطبيق خططها تدريجيًا.
أما في الوقت الحاضر، ومع استمرار السيطرة الإسرائيلية على منابع المياه في سوريا، فإن هذا يعني أن الشعب السوري بات مجبرًا على شراء المياه من إسرائيل، كما يحدث في الجنوب السوري، حيث أصبح هذا المصدر الحيوي بأيدي قوات الاحتلال. وفضلاً عن المياه التي سرقتها إسرائيل من الجولان وطيبرية، فإنها تديرها لصالح مستوطناتها، وتوفر لها كميات من المياه تفوق عشرات المرات ما يحصل عليه المواطن السوري.
ولكن، هل ستكتفي إسرائيل بما حققته حتى الآن؟ الإجابة الواضحة هي لا. فقد بدأت إسرائيل تتطلع إلى السيطرة على نهر الفرات ونهر النيل، باعتبارهما من أعظم المصادر المائية في المنطقة. وقد بدأ هذا المخطط في السبعينات، حينما عرضت إسرائيل على الرئيس المصري أنور السادات مشروع “مياه السلام”، الذي كان يهدف إلى تخصيص جزء من مياه النيل لصالح المستوطنات الإسرائيلية في صحراء النقب. وفي ذات الوقت، ساعدت إسرائيل تركيا في بناء السدود على نهر الفرات، وهو ما أثر بشكل مباشر على الموارد المائية في سوريا والعراق.
لكن قصة نهر النيل تمضي ببطء. فإسرائيل لم تكتفِ بالتحرك نحو منابع المياه في سوريا ولبنان فحسب، بل بدأت تتحرك نحو أفريقيا، حيث دعمت إثيوبيا في بناء سدود على نهر النيل، مما ساعد على تضييق الخناق على مصر. ورغم أن القاهرة قد اتخذت خطوات لحماية مصالحها المائية، فإن التهديد ما زال قائمًا.
أما في سوريا، فالواقع أكثر تعقيدًا، حيث أصبحت البلاد مسرحًا للصراعات السياسية والعسكرية. مع تدمير البنية التحتية، بما في ذلك شبكات المياه، فإن الأمر أصبح أكثر صعوبة في تأمين احتياجات الشعب السوري. وهو ما يطرح تساؤلات عن دور الحكومة السورية الحالية أو القوات المعارضة في الدفاع عن هذه الموارد الحيوية. بل إن المعادلة قد تغيرت تمامًا، وأصبحنا نشهد وضعًا غريبًا حيث تعين “أبو محمد الجولاني” وزير دفاع في حكومة سورية جديدة، وهو الذي كان جزءًا من الفصائل المسلحة التي أسقطت الجيش السوري. كيف يمكن لهذا الواقع أن يتطور؟ وكيف سيحمي هذا “الجيش” الذي أُعيد تشكيله مصادر المياه التي باتت تُسرق على مرأى الجميع؟
وفي الختام، إن النتيجة الوحيدة التي يمكن أن نستخلصها من هذا الواقع المأساوي هي أن إسرائيل تواصل تنفيذ حلمها الاستراتيجي الذي بدأ منذ أكثر من 150 عامًا. سيطرت على مصادر المياه، واحتلت الأرض، وفرضت سيطرتها العسكرية والسياسية على المنطقة، وتستمر في هذا المسار بدون مقاومة تذكر. أما سوريا، فبقيت ضحية للتقسيم الداخلي والتدخلات الأجنبية، وحكامها الحاليين أو المستقبليين قد لا يكون لديهم القدرة على استرجاع مصادر مياههم أو حتى الأراضي التي سُلبت منهم.