لم يجد الكاتب أثراً لمصطلح ازدواجية المصالح، ولكن وفي إطار الحياة المعاصرة وجد مصطلح التفكير المزدوج الذي اصطلحه الكاتب البريطاني جورج أورويل في كتابة الصادر سنة 1948 وحدد معناه بأن: «تحمل الفكرة وتحمل نقيضها في نفس الوقت» وبين أن له علاقة بالتنافر المعرفي. كما طُرح مصطلح تضارب المصالح كسياسة لشركة لازوردي للمجوهرات لتحمي به نفسها.
لا يدري الكاتب هل مصطلح ازدواجية المعايير، والكيل بمكيالين، سيكون لهما مكان في عالم السياسة اليوم بعد أن تعمقت وتجذرت مفاهيم ازدواجية المصالح؟ الكل يتفق في عالم السياسة على أنه لا يوجد عدو دائم ولا صديق دائم، بل مصالح دائمة، وهذا مقبول. ولكن عندما يتغير الحال ليصبح من كان عدواً بالأمس صديق اليوم بحكم المصلحة، ويصبح التعامل مع العدو والصديق بنفس المستوى الذي تفرضه المصالح، فهذا أمر لا يقبله المنطق ولكن قد تقبله السياسة. وهذا ما سيسمح لمصطلح ازدواجية المصالح أن يعمم وينتشر بين الدول الكبرى اليوم، مما سيربك حالة الاستقرار بالدول التي تتعاطى معها، وربما لا يتعارض مع مصالحها كدول كبرى.
لا يدري الكاتب هل طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 قد ساعد على تعميق مصطلح ازدواجية المصالح واجتاح الطوفان ثوابت ازدواجية المعايير مع المصالح. فالمنطق يقول عندما تتناقض المصالح يحدث التنافر ولكن أن تتناقض المصالح وتستمر العلاقة ويحدث تقارب بين العدو والصديق فهذا فن السياسة الجديد. الكاتب كان، ولا زال، معجباً بسياسة جمهورية تركيا في إتقانها فن ازدواجية المصالح بعد أن لعبت عدة أدوار لتحقيق مصالحها مع أطراف متناقضة، مثل روسيا مع أميركا، وكذلك بين إسرائيل ومصر والمقاومة الفلسطينية، وازدادت توسعاً فربطت علاقات مصلحية مع إيران ودول الخليج أيضاً، وباكستان والصين.
ليبيا تتلاطمها دوامة ازدواجية المصالح:
تنقل جريدة بوابة الوسط بتاريخ 5 /5 /2024 عن موقع «أويل برايس» بترجمة هبة هشام أن «منطقة الساحل، الأخص ليبيا والسودان، بدأت في التفكك وهو ما يوفر مدخلا رئيسيا لروسيا والمرتزقة التابعة لها» يأتي هذا بعد أن تمركز قوات روسية بالقاعدة العسكرية 101 في النيجر بعد الانقلاب العسكري على الرئيس محمد بازوم نهاية يوليو 2023، وعلى الرغم من تمركز قوات أميركية بحضائر أخرى من القاعدة، فهذا الحضور النقيض ضمن قاعدة عسكرية يؤكد طرحنا لازدواجية المصالح. لقد منُحت بأرض النجير شركة ساهارا الصينية يونيو 2023 تصريحاً بالتنقيب عن الذهب وبدأت مع بداية يناير هذه السنة إلا أن نفوق بعض الحيوانات بقرى بشمال النيجر، نتيجة توقعات لشربها مياه التصريف للمناجم الملوثة، دفعت وزارة المناجم النيجيرية بغلق موقت لعدد 4 مواقع.
وبغض النظر عن حادثة نفوق الحيوانات إلا أن الأهم بالتأكيد هو هذا التفاهم الأميركي – الروسي، في ظل ازدواجية المصالح، باقتسام قاعدة عسكرية بالنيجر*، الذي يعني الاتفاق أيضاً على إخراج الصين من النيجر! الأمر لا يقف عند هذا الحد بل السؤال المطروح هو: هل التكلفة الباهظة لازدواجية المصالح بين أميركا وروسيا ستكون تقسيم ليبيا أو غيرها من الدول الأفريقية؟ فربما تقسيم المصالح يعمل على تقسيم الدول! وهنا سنجد أن سيادة الدول المعترف بها في الأمم المتحدة في محك خطر ازدواجية المصالح ومنها ليبيا! فلقد تغير وجهة الرئيس النيجري علي لامين زين من أقصى الغرب إلى الشرق الغربي تركيا وزيارته لها في فبراير 2024 وكذلك ربط علاقات مع إيران والهند وباكستان.
مع ماكينة الدعاية الأميركية المروجة للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان انتصرت أميركا على الاتحاد السوفيتي وهزمته في آخر ديسمبر 1991. إلا أنه بعد انتهاء الثنائية القطبية واستفراد أميركا بالمصالح فرضت على دول العالم إما تكون صديقة وتخدم مصالح أميركا أو عدوة لأميركا ولا تخدم مصالحها. وربما هذا ما دفع لتبادل المصالح بين الدولة عبر النواب بعد أن غلقت أميركا جميع أبواب التعاون إلا من خلالها. وهذا ما يبرر توطيد علاقات حماس مع إيران التي لا ينظر إليها كصديقة للدول العربية التي هي أولى بدعم المقاومة الفلسطينية والوقوف معها.
وتمادى طغيان وغطرسة أميركا إلى دعم إسراف الصهاينة في القتل والتدمير وحرب الإبادة لسكان غزة، بل الألعن من ذلك الإسراف في الفجور تهديد 12 عضواً من الحزب الجمهوري من مجلس الشيوخ بسحب الدعم عن محكمة الجنايات الدولية لو أصدرت أية مذكرات توقيف واعتقال بحق مجرم حرب-القرن نتنياهو وزبانيته.
تركيا وازدواجية المصالح مع إيران:
كانت لتركيا السنة الماضية زيارة إلى السعودية التي رحبت بزيارة إردوغان في 17 /7 /2023، وكانت الزيارة لتوطيد العلاقة والتعاون في مجالات: الطاقة، والعقار، والبناء، والتعليم، والتقنيات الرقمية، والصحة، والإعلام، والتأكيد على سلمية برنامج إيران النووي، وإيجاد حلول سياسية سلمية لمشكلة اليمن. والتأكيد على التزام جميع الأطراف في السودان بوقف إطلاق النار والجلوس إلى طاولة الحوار السياسي. ومن أهداف الزيارة أن تكون تركيا طريق عبور لمصادر الطاقة والكهرباء إلى أوروبا.
ولم يمنع ذلك أن تكون لإردوغان زيارة إلى إيران هذه السنة في 24 يناير 2024 للوصول إلى مصالح مزدوجة ومشاطرة المنافسة الإقليمية لسورية والعراق وجنوب القوقاز والتعاطي مع اضطرابات الشرق الأوسط وما تواجهه غزة من عدوان صهيوني. فتظل الموازنة ومواءمة ازدواجية المصالح بين تركيا والخليج وأيضاً بين تركيا وإسرائيل وتركيا والمقاومة الفلسطينية تتطلب فن التعاطي بمنطق ازدواجية المصالح. فالحرص مستمر لدعم جهود السلام بما يحقق للشعب الفلسطيني إقامة دولته بحدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية تتطلب مواءمة بين المصالح المتناقضة المجتمعة مع تركيا وربما العديد من دول العالم.
باكستان وتركيا والخليج وإيران:
سعت باكستان في السنوات الأخيرة إلى العمل على جذب أموال السعودية وباقي دول الخليج ودعتها للاستثمار في باكستان لتعميق العلاقة الطيبة مع دول الخليج. كذلك وبعد مباشرة عمله حرص السيد/ شهباس شريف رئيس باكستان على دعوة الرئيس رجب طيب إردوغان لزيارة إسلام آباد بباكستان مع الفتور الذي، كانت، تعيشه تركيا مع دول الخليج إذا ما استثنينا قطر. كذلك سعت باكستان للتوقيع مع نهاية شهر سبتمبر 2023 بالأحرف الأولى على اتفاقية التجارة الحرة مع مجلس التعاون الخليجي.
وفي مساعٍ لخفض حدة التوتر الحدودية مع إيران تسعى باكستان إلى أن تكون بداية السنة 2024 فاتحة خير بإعادة صياغة العلاقات الدبلوماسية مع إيران بما يجعلها علاقات طيبة تخدم البلدين.
مع استمرار العلاقة الجيدة مع أميركا تعمل باكستان لربط العلاقة مع روسيا، فقد زار وفد رفيع المستوى يمثل الدولة الروسية مع نهاية يناير 2023 باكستان وأسفرت عن عقد اتفاقية تعاون لغرفة التجارة والصناعة بموسكو مع نظيرتها غرفة الصناعة والتجارة بإسلام آباد على أمل توسيع العلاقات التجارية بين البلدين، والتعاون في مجالات الاقتصاد والطاقة والتطوير العلمي والتقني.
كما تسعى باكستان إلى فتح آفاق التعاون مع الصين وذلك بتطوير البنى التحتية لطريق بري يربط بين ميناء كوادر بباكستان ومدينة كاشغر الصينية والمرتبط بمشروع طريق الحرير الصيني إلى أوروبا.
إيران والصين وروسيا:
مع أن لإيران تفاهمات مع أميركا إلا أن ذلك لم يمنعها من أن تقصف إسرائيل في 14 أبريل 2024، الجامحة والحاقدة والمدللة لأميركا، بعدد 300 من الصواريخ والطائرات المسيَّرة، رداً على قصفها لسفارتها بسورية بتاريخ 1 أبريل 2024، وتوسع من دائرة مصالحها بمنطق ازدواجية المصالح، فلقد حققت اتفاقات مع الصين وروسيا على هامش اجتماعها الأخير بكازاخستان مع منظمة شنغهاي للتعاون الذي نظمته. وضمن التفاهمات كان تزويد إيران لروسيا بصواريخ أرض-أرض البالستية، وعقد اتفاقات لشراء طائرات مقاتلة نوع سوخوي-35. وأبدت الصين كذلك رغبتها في التعاون العسكري مع إيران.
على الطرف الآخر نجد أن توثيق السعودية علاقاتها مع الولايات المتحدة لم يحجبها عن فتح أبواب التواصل مع الصين وروسيا.
الخاتمة:
لا ندري هل الإسراف المفرط في استفراد أميركا بتحديد مصالح الدول من خلال الأبواب التي تفتحها، أو أن أحداث 7 أكتوبر وطوفان الأقصى أحدثت انقلاباً في العلاقات الدولية لدرجة أنه بات لشعوب العالم تأثير مباشر في العلاقات الدولية؟ وهل باتت ازدواجية المصالح السمة الفارضة لنفسها في السياسة اليوم؟ إلا أن ما يراه الكاتب هو عوضاً أن ينتظر الساسة في ليبيا لتكون ليبيا مفعولاً بها فعلى المخلصين تحريك دواليب العمل السياسي، بعد ترطيبها بزيوت المصالح ولو كانت مزدوجة، بما يضمن مصلحة ليبيا كدولة واحدة وإلا ستسقط تحت منشار ازدواجية مصالح الدول الكبرى، الذي بدأ يكشر عن أسنانه في النيجر، وتتحول إلى دول قزمية لا شأن لها ولا فاعلية عندها. على ليبيا أن تتقن فن اللعب على حبل تقارب المصالح المزدوجة لأميركا وروسيا ودون إهمال لتوثيق العلاقة بتركيا وفتح قنوات التواصل مع إيران، وباكستان، والصين وباقي الدول المجاورة.
على ليبيا أن تنتهج الحياد في سياستها مع جميع دول العالم وتجعل من ازدواجية المصالح منهج عمل لها لتضمن استمرار بقائها. وهذا يتطلب أن تلتفت وبعناية إلى الجبهة الداخلية حيث بدأت تلوح في الأفق فرص تعرضها لمساومات ازدواجية المصالح بين الدول الكبرى. للأسف الحروب الأهلية وفشل جميع الحكومات، من بعد 2011، في ترميم النسيج الوطني الذي مزقه الجهل، والكسل، والحرب، وغياب مشاريع حقيقية عملية للمصالحة الوطنية.