عقد حزب العمل والإنجاز المنشق عن النهضة مؤتمره الأول في تونس، وهو مؤتمر تأسيسي لهوية الحزب ويفترض أنه يرسم نقاط الخلاف بينه وبين الحركة الأم ويؤسس من خلالها لمقاربته الخاصة في الإجابة على مختلف الأسئلة المطروحة بشأن حدود الخلاف مع النهضة في المقاربة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
كشف البيان الصادر عن المؤتمر بعد نهاية الأشغال أن “العمل والإنجاز” يضع نفسه في صف النهضة سياسيا في مواجهة حكم الرئيس قيس سعيد، وهو يردد تفاصيل ما قاله الأمين العام الجديد لحزب النهضة في تصريحاته الأخيرة بشأن العمل الجبهوي وتوسيع قاعدة التفاهم بين خصوم قيس سعيد.
يدعو البيان الصادر عن عبداللطيف المكي، الأمين العام الجديد لحزب العمل والإنجاز، إلى “دعم كل أشكال التقارب بين الأحزاب السياسية والنخب حول معالجة القضايا الكبرى للبلاد والعمل على الخروج من الأزمة السياسية والعودة للمسار الديمقراطي”.
لا ينأى الحزب بنفسه، وفق هذه المفردات، عن تجربة النهضة والانتقادات التي توجه لها من داخل عائلة الإسلاميين بأنها أفرغت “المشروع الإسلامي” من أبعاده المختلفة وحولته إلى واجهة سياسية هدفها الوصول إلى السلطة بقطع النظر عن أهداف إستراتيجية أخرى مهمة تتعلق بالبناء الثقافي وتغيير قيم المجتمع بهدف “أسلمته”، أو النضال على جبهة العدالة الاجتماعية التي يشير إليها المكي باستمرار.
من الواضح أن حزب العمل والإنجاز يسير في المطبات التي تعثرت فيها النهضة من حيث أراد القطيعة معها أو على الأقل التمايز عنها. وربما يعود الأمر إلى تأثير قيادات الصف الأول فيه، وأساسا أمينه العام الذي كان قياديا من الصف الأول في النهضة وتشرّب تكتيكاتها وخططها ومن الصعب أن يتخلص منها كليا حتى وإن كان ينتقدها علنا ويريد أن يتخلى عن تلك “الأمراض”.
ومن الانتقادات التي كان يوجهها بعض المنشقين عن النهضة، سواء منهم الذين انضموا إلى الحزب الجديد أم الذين استمروا مرجئة على الربوة، استمرار الغنوشي في كرسي الرئاسة لعقود، وأنه لا يستمع لمن حوله، فهل يقدر المكي على كسر هذه القاعدة، ويؤسس لقيادة جماعية ويخضع لموقف المؤسسات، وهل سيجد بعد ثلاث سنوات أن ثمة من يفيد من حزبه كي يتسلم دفة القيادة، خاصة أن جزءا كبيرا من قاعدته من الأجيال الجديدة التي قد لا تستوعب رسالة الحزب وأجندته، وقد تحوله إلى حزب براغماتي يومي يحصر همه في الانتخابات والمشاركة في السلطة.
مشكلة القيادة في النهضة، وفي حركات إسلامية أخرى، تكمن في أنها تعتقد أن منتسبي الحزب بمن فيهم قيادات الصف الأول ليسوا أكثر من عامة لا يدركون ألغاز القيادة ولا يمتلكون مفاتيح أسرارها، ولهذا تمسك الغنوشي بقيادة النهضة رغم الدعوات الكثيرة التي تحثه على التنحي والتفرغ لما هو أهم من مثل التدوين لتاريخ الحركة، أو التنظير للتجربة وكيفية خروجها إلى آفاق جديدة، وبناء علاقات خارجية أكثر متانة تحوله من رمز محلي إلى شخصية عابرة للدول.
حتى لو وضع المؤتمر مددا واضحة أمام القيادة لترك كرسي الرئاسة أو الأمانة العامة، فإنه من السهل التحايل على تلك الضوابط وتغييرها إما من خلال موازين القوى داخل المؤتمر من خلال مقولة الغنوشي المعروفة “المؤتمر سيد نفسه” أو من خلال تمرير “تعديلات” دستورية مسبقة يتم الاستفتاء عليها داخل الهياكل وإقرارها على أن يتم تبنيها، وفي هذا تتشابه الأحزاب والحركات مع الأنظمة في إتقان المناورة وتنفيذها.
من الصعب الخروج بالإسلاميين من ثقافة الأمير، وهي ثقافة تقديس وطاعة، إلى ثقافة أخرى مغايرة يتحول فيها رئيس الحزب إلى ما يشبه رئيس مدير عام شركة يمكن أن تتم إقالته إذا لم يجلب الأرباح الكافية أو إذا عرّض المؤسسة لخسائر فيجتمع مجلس الإدارة/ الشورى أو المجلس المركزي، ويقيله ويبحث عن شخص آخر بديل يكون أكثر واقعية وقدرة على جلب المنافع.
هل يقدر الإسلاميون على تحمل أمير/ رئيس يتجرأ عليه “العامة” في الحزب فيقيلونه ويسائلونه من أين جاءت الأموال وفيم أنفقت، أم أن الخروج على الغنوشي وشق عصا الطاعة في وجهه فقط لأنه منع من يتشبّه به من أن يجلس على كرسيه ويعيد إنتاج اللعبة من جديد وإنْ بأسماء جديدة.
ليست المشكلة في عبداللطيف المكي، ولا علي لعريض ولا سمير ديلو، فقد يكون الواحد نزيها متعففا عن المهمة لكنه حين يجلس على الكرسي تجلبه ثقافة الأمير إلى التاريخ ويعيد إنتاج نفس المأساة.
بالتأكيد حقق المنشقون عن النهضة مكسبا واضحا بإظهار قدرتهم على تحويل تحديهم للغنوشي إلى واقع معيش، وإن كان هذا المكسب باردا في ظل وجود خصمهم في السجن.
لكن السؤال الذي يطرح عليهم: ما هي الإضافة على مقاربات النهضة، أو لماذا غادروا، غير عنصر الخلاف مع الغنوشي والاختلاف في التفاصيل الخاصة بالقيادة وسوء إدارتها للشأن الداخلي وللمرحلة ككل خلال فترة الحكم وتمكين المقربين من المواقع المتقدمة في الدولة والاستنجاد بـ“غرباء” وترك أهل الدار على الهامش؟
ماذا عن المقاربة الاقتصادية عدا الشعارات العامة من مثل “ضرورة العمل المشترك مع الأطراف السياسية والاجتماعية لبلورة ميثاق وطني نحو تنمية اقتصادية واجتماعية”، أو تعبر اللائحة الاجتماعية والاقتصادية عن مشروع الإنقاذ وإعادة البناء بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية وتكريس أنموذج تنموي يحقق التنمية المستدامة والتموقع في الاقتصاد الجديد والانفتاح على الأسواق العالمية وجلب الاستثمار وخلق الثروة.
تبدو هذه المفردات متنافرة ولا تعبر عن مقاربة واضحة، وذلك بسبب غياب نقاشات ودراسات مسبقة في الملف الاجتماعي داخل النهضة أو خارجها، عدا أفكارا عامة يتم ترديدها لدى القيادة والقاعدة.
وعادة تكون المسائل الاجتماعية والاقتصادية عنصرا هامشيا في اهتمام الإسلاميين وتتذيل بياناتهم لتجنب الانتقادات من المجموعات اليسارية التي تقلب الأولويات نظريا وتجعل الاقتصاد أولا، وإن كانت هي نفسها تركت مقولات اليسار وراء ظهرها.
تسيطر السياسة على اهتمام الإسلاميين، الذين ينحدرون من خلفيات إخوانية، ولأجلها فهم يغرقون في التفاصيل التنظيمية في الداخل بتصعيد الأنصار المطيعين وتهميش المتنطعين، وفي الخارج حولوا كل جهودهم للصراع مع الأنظمة، وفي الغالب فهو صراع عبثي لأن الأجسام التنظيمية الحزبية لا تقدر على هزيمة الأجهزة الأمنية والاستخبارية للأنظمة.
لكن الإسلاميين وجدوا في هذا الصراع ما يشبه اللعبة التي تعطيهم نقطة قوة وانتشار، وهي المظلومية، وفي نفس الوقت تعفيهم من خوض النقاشات في ملفات اقتصادية واجتماعية وثقافية لا قبل لهم بها، وهي مفقودة في تراث التفاسير، أو غامضة ومرتبطة بأزمة قديمة.