تتقدم دول القارة الأفريقية واحدة تلو الأخرى نحو صياغة محددات جديدة لعلاقاتها الخارجية ملمحها الأبرز التحرر من خارطة العلاقات التقليدية مع الدول الغربية، وفي تلك الملامح تتقدم روسيا؛ وفي أحدث المؤشرات العابرة للتقديرات الدالة على التمدد الروسي في أفريقيا، أعلن السفير الروسي في أسمرة “إيغور موزغو” قيام بلاده بمناورات عسكرية مشتركة مع البحرية الإريترية ضمن نشاطات تقوم بها الفرقاطة الروسية “المارشال شابوشنيكوف” في الشواطئ الإريترية بين 28 آذار/ مارس و5 نيسان/ أبريل الجاري. لتصبح “المارشال شابوشنيكوف” أول سفينة روسية تقوم بهذا النوع من التدريبات مع جيش إريتريا منذ استقلال الأخيرة عام 1993.
وتأتي المناورة البحرية في توقيت محمّل بالرسائل والدلالات يبدأ من مناسبة إحياء الذكرى الـ 30 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين روسيا وإريتريا، وينتهي بمشهد أفريقي متحرك كرمال الصحراء في إعادة تشكيل علاقاته الدولية، ولا يخلو من صراعات القوى الكبرى المتنافسة على النفوذ في أفريقيا عموماً؛ ومنطقة البحر الأحمر على وجه الخصوص. فجاءت المناورة الروسية -الإريترية برسالة روسية مفادها ” نحن هنا”.
قطعاً، لا يمكن اختصار حيثيات العلاقة بين روسيا وإريتريا في مجرد مناورة عابرة، وإن كانت محمّلة بالرسائل والأبعاد، لأن المناورات العسكرية عادة ما تترجم إلى رسائل سياسية، وفي هذه الحالة تبدو موسكو معنية إزاء هذه التطورات المتلاحقة بإثبات حضورها، وأنها ليست معزولة عن التطورات الجارية في جنوب البحر الأحمر.
وتمضي كلّ من روسيا وإريتريا نحو علاقة أعمق تتجه صوب التعاون العسكري التقني الثنائي؛ وهو ما أعلنته السفارة الروسية في إريتريا في 3 نيسان/ أبريل الجاري؛ أن البلدين عقدا محادثات حول تطوير التعاون العسكري التقني الثنائي في ميناء “مصوع” الإريتري على البحر الأحمر.
وجاء في بيان السفارة: “عقدت المحادثات الروسية-الإريترية حول التعاون العسكري التقني في مقر إقامة رئيس إريتريا، وتبادل الجانبان وجهات النظر والمقترحات بشأن تطوير التعاون في هذه المجالات، وحددا المزيد من خطوات التعاون”.
لم تكن العلاقات الروسية – الإريترية وليدة المناورة البحرية في 28 آذار/ مارس الماضي؛ كذلك لم يكن اتفاق التعاون العسكري التقني الثنائي في ميناء “مصوع”؛ في نيسان/ أبريل الجاري، المؤشر الوحيد على التموضع الروسي في إريتريا؛ ويمكن التأصيل للعلاقات الرسمية بين البلدين منذ اليوم الأول لاستقلال إريتريا عن إثيوبيا، في 24 أيار/ مايو 1993، وخلال بضعة أشهر وتحديداً في عام 1994 افتتحت روسيا سفارتها في العاصمة أسمرة، وفي عام 1996 افتتحت إريتريا سفارة لها في موسكو، وفي العام التالي 1997، تم التوقيع على اتفاقية للتعاون العسكري التقني بين البلدين.
وقد شهد العام الماضي تطوراً ملحوظاً في العلاقة بين البلدين، عندما وقعت إريتريا في 10 كانون الثاني/ يناير 2023، مذكرة تفاهم مع روسيا تنص على ربط مدينة “مصوع” الإريترية الساحلية بقاعدة البحر الأسود البحرية سيفاستوبول. ويتيح هذا الاتفاق لموسكو استغلال ميناء “مصوع” الإريتري؛ تمهيداً لإقامة قاعدة عسكرية روسية جديدة في البحر الأحمر بالقرب من مضيق باب المندب.
ويبدو أن التطورات الأخيرة في الساحل الأفريقي وتغيّر خارطة العلاقات والتحالفات التقليدية قد دفعت بموسكو إلى إعادة النظر في ترتيب حضورها في القارة الأفريقية؛ وجاءت إريتريا في مقدمة الأولويات والاهتمامات الروسية. وهو ما يفسره أيضاً تعيين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ في28 تموز/ يوليو 2023؛ مساعده مكسيم أوريشكين رئيساً لمجموعة العمل الخاصة الروسية رفيعة المستوى التي تم تشكيلها بناءً على اتفاق بين الجانبين الروسي والإرتيري، والتي ستدرس إمكانيات بناء التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين خلال لقائه نظيره الإرتيري في القمة الروسية -الأفريقية في سانت-بطرسبورغ العام الماضي.
وفي مقابل الاستدارة الروسية إلى إريتريا، استدارت الأخيرة باتجاه موسكو، ففي شباط/ فبراير 2022؛ كانت إريتريا الدولة الأفريقية الوحيدة؛ وإحدى الدول الخمس التي عارضت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يطالب الاتحاد الروسي بسحب قواته من أوكرانيا، وفي أيار/ مايو 2022؛ صوّتت إريتريا ضد قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بتشكيل لجنة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان المحتملة في العملية العسكرية الخاصة لروسيا في أوكرانيا.
وفي العام الماضي 2023؛ زار الرئيس الإريتري روسيا مرتين، الأولى للمشاركة في أعمال القمة الروسية الاقتصادية والإنسانية الأفريقية، والثانية للمشاركة – مع مجموعة من الزعماء الأفارقة -في يوم أسطول البحرية الروسية، الذي أعلن فيه الرئيس الروسي “فلاديمر بوتين” زيادة قوة أسطول بلاده بنحو 30 سفينة من مختلف الفئات، وبدا الإعلان كما لو أنه رسالة روسية لتعزيز ثقة الشركاء الأفارقة. وهو ما تُرجم هذا العام بالإعلان عن المناورة البحرية الروسية-الإريترية المشتركة.
ومن الرسائل التي تحملها المناورة البحرية الروسية – الإريترية، أن محددات العلاقة بين الطرفين تبدو تبادلية ندية؛ ومعنى ذلك أنها مرشحة للتطور والتقدم والتقارب بشكل أكبر مدى وأكثر عمقاً؛ فروسيا تبحث عن موضع قدم في الساحل الأفريقي، لا سيما مع حالة التنافس الدولي والإقليمي في القارة، ويضمن موقع إريتريا لها ذلك ويوفره؛ بينما تسعى إريتريا من خلال علاقتها مع موسكو إلى فك العزلة الدولية المفروضة عليها بسبب العقوبات الأميركية، والاحتماء بحق النقض “الفيتو” الذي تملكه موسكو في مجلس الأمن وسبق أن لوّحت به دفاعاً عن إريتريا.
أما أهداف العلاقة بين الطرفين، فالبنسبة إلى إريتريا تسعى لإيجاد بدائل روسية في مجالات التعاون الاقتصادي والتجاري والتعدين والتعليم، إضافة إلى الاستفادة من التكنولوجيا العسكرية الروسية لإعادة تحديث وبناء الجيش الإريتري الخارج من حرب طاحنة بإقليم تيغراي الإثيوبي.
ولطالما ظلت العلاقات مع الغرب من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى محدداً رئيسياً للسياسة الخارجية الإريترية، وفي هذا السياق، يبدو احتضان أسمرة هذه المناورات حاملاً مجموعة من الأهداف، إذ يستخدم النظام الإريتري هذه المناورة وتوثيق علاقاته بموسكو كوسيلة للضغط على واشنطن للتدخل الجاد والفاعل، لإجبار إثيوبيا على القيام بترسيم نهائي للحدود بين البلدين، وفقاً لاتفاقية الجزائر الموقعة عام 2000 وقرارات محكمة العدل الدولية الصادرة في العام ذاته، والتي أكدت ملكية إريتريا بعض الأراضي الواقعة تحت سيطرة إثيوبيا.
في المقابل، وفي ظل حالة الصراع التي يمرّ بها النظام الدولي والتطورات الإقليميّة في القرن الأفريقي والشرق الأوسط -يتضح أن إنشاء قواعد عسكرية روسية في الخارج، ولا سيّما في المناطق الحيوية من أهم دوافع التحركات الروسية لملء هذا الفراغ، وهذا ما توفره إريتريا في واحدة من أهم المناطق الجغرافية أهمية أفريقياً وعربياً براً وبحراً.
وهو ما يعزز الحضور الروسي نحو العمق الأفريقي في شرق القارة ووسطها وجنوبها، ويضمن لها التأثير في معادلة أمن البحر الأحمر بما ينعكس على تعظيم نفوذها في الشرق الأفريقي.
ومن أبعاد المناورة الروسية -الإريترية ورسائلها أن روسيا تسعى لتثبيت تحركاتها في القارة الأفريقية، وتحديداً من بوابة إريتريا لتأكيد مكانتها في خارطة التفاعلات الدولية، ومنافسة الحضور الأوروبي-الأميركي في أفريقيا ومزاحمته ومحاصرته، خاصة أن روسيا تقدم نفسها في القارة الأفريقية كبديل، والأهم أن توقيت التحرك الروسي في أفريقيا يتزامن مع تصاعد الفكر الأفريقي في التحرر من التبعية للغرب.
وتدرك موسكو أن تمركزها في إريتريا وفرض حضورها وسيطرتها على بعض المضائق المائية الاستراتيجية بما في ذلك مضيق باب المندب يمكن أن تمثل ورقة ضغط مهمة لمساومة الولايات المتحدة والغرب في بعض الملفات الشائكة بينهما مثل ملف أوكرانيا، لا سيما أن إريتريا تمتلك ميناءين استراتيجيين على البحر الأحمر هما “عصب ومصوع”، وهو ما يعزز فعالية الحضور الروسي ودوره وقدرته على المناورة في القارة الأفريقية.
والمناورة يمكن أن تصبح بوابة استراتيجية للروس للتمدد إلى بعض دول المنطقة مثل إثيوبيا وجيبوتي والصومال إلى جانب أوغندا في منطقة البحيرات العظمى.
رغم ما تحمله المناورة البحرية الروسية-الإريترية من رسائل وأبعاد فإنها لا تخلو من التداعيات، وأهمها أن الحضور الروسي في القارة الأفريقية عموماً وفي إريتريا خصوصاً قد يكون سلاحاً ذا حدين فمن ناحية، قد تستفيد دول المنطقة من هذا التنافس عن طريق ضخ المزيد من الاستثمارات والمساعدات الاقتصادية والمالية إليها. ومن ناحية أخرى، قد يترتب على تكالب القوى نحو القرن الأفريقي تنامي عسكرة المنطقة ما يعزز حالة عدم الاستقرار الإقليمي هناك، خصوصاً أن هذه المناورات في سياق تتصاعد فيه المخاوف الإريترية من الجار الجنوبي العملاق، وذلك مع مطالب رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بالحصول على منفذ بحري سيادي على البحر الأحمر. وهو ما أدى إلى استنفار أسمرة لقواتها على جبهة عصب الجنوبية؛ تحسباً لأي غزو إثيوبي محتمل بعد أن وصلت العلاقات بين البلدين نتيجة الخلاف على العديد من الملفات إلى نقطة حرجة.
ختاماً، تمثل هذه المناورات تطوراً طبيعياً في سياق يشهد تقارباً للعلاقات الروسية-الإريترية وحاملة رسائل داخلية وخارجية يتشارك الطرفان فيها العمل على كسر الحصار الغربي المفروض عليهما، ومعبّرة عن التوجس من التحركات الأميركية الرامية إلى إعادة صياغة الترتيبات الأمنية جنوب البحر الأحمر.
وعليه، لن تمر خطوة اقتراب أسمرة من موسكو-المناورة البحرية – من دون ردّ من قبل واشنطن، وبالتالي فإن السيناريو المتوقع هو أن تذهب الولايات المتحدة إلى الضغط على إريتريا لإجبارها على التراجع أو تعليق اتفاقها مع موسكو، كما فعلت مع السودان في العام الماضي، وإن كان ذلك مستبعداً بسبب أيديولوجية أفورقي المعادية لواشنطن.
ومن المتوقع أن تتعرض أسمرة لمزيد من الإجراءات العقابية الأميركية والدفع نحو تمديد عزلتها الدولية، بل قد تذهب واشنطن إلى أبعد من ذلك، كالضغط على أديس أبابا للتخلي عن أفورقي وإطلاق يد “جبهة تحرير تيغراي” لمحاولة إسقاط النظام الإريتري بعد تسوية الصراع الإثيوبي بشكل نهائي. الأمر الذي يعني تدحرج الصراعات في منطقة القرن الأفريقي. ويضع التموضع الروسي في أفريقيا على المحك.