أفريقيا

إقليم “صوماليلاند” الانفصالي: قراءة في مسوّغات الانفصال وتحدّياته بعد ثلاثة عقود

اتجهت أنظار الاستعمار الأوروبي مبكرًا إلى الصومال، فأخذت القوى الأوروبيَّة الكبرى، خلال القرن التاسع عشر، تتدافع فيما بينها للسيطرة على ما يُعرَف بـ”الصومال الكبير”؛ الذي يُغطّي الجزء الأكبر من منطقة القرن الإفريقي، وقسَّمته إلى خمس محميات، لتفصل بذلك بين أبناء القبيلة أو العشيرة الواحدة؛ حيث استولت بريطانيا على الجزء الشمالي، وأطلقت عليه “الصومال البريطاني”

قبل أكثر من ثلاثة عُقود، وتحديدًا في مايو 1991م، وبينما كانت الحرب الأهليَّة تعصف بالصومال وتؤسس لمرحلةٍ طويلةٍ من التفتُّت والفوضى والانقسام السياسي ما تزال ملامحها تطبع المشهد السياسي في البلاد حتى اليوم؛ أعلن إقليم صوماليلاند، أو ما كان يُعرَف سابقًا بالصومال البريطاني، انفصاله من جانبٍ واحدٍ عن الحكومة المركزيَّة في مقديشو.

وبينما تُعارض الحكومة الفيدراليَّة مسألة استقلال إقليم صوماليلاند وفضّ ارتباطه معها، بوصفه جزءًا لا يتجزأ من أراضيها؛ إلا أنَّ سُلطات الإقليم ماضية في طريق الاستقلال، وتراه خيارًا لا رجعة فيه. ورغم توافر المسوغات القانونيَّة والسياسيَّة التي تدعم المسار الانفصالي، كما تروّج لذلك سُلطات الإقليم، فضلاً عن النجاحات النسبيَّة التي تحققت في الداخل، كإقرار دستور جديد وبناء المؤسسات الحكوميَّة وجذب الاستثمارات الأجنبيَّة؛ إلا أنَّ الجمهورية الانفصاليَّة عاجزة حتى الآن، عن نَيْل اعتراف دوليّ يوفر لها الأساس القانوني للتفاعل والتعاون مع الوحدات السياسيَّة الأخرى، والتمتع بعضوية المنظمات والتكتلات الدوليَّة والإقليميَّة.

وتسعى هذه الورقة، ضمن ثلاثة محاور، إلى تتبُّع السياق التاريخي لنشأة الجمهورية الصوماليَّة المُستقلة، عام 1960م، والظروف السياسيَّة التي أدت إلى انفصال صوماليلاند بعد ثلاثين عامًا من الوحدة مع الصومال، ومِن ثَمَّ تفنيد مسوغات هذا الانفصال ومُبرراته، وأخيرًا إيضاح أبرز التحديات التي تُواجه الحكومة الانفصاليَّة في صوماليلاند، على الصعيدين الداخلي والخارجي، في سعيها لتأكيد استقلالها وانتزاع الاعتراف الدوليّ بها.

أولاً- صوماليلاند من الاستقلال إلى إعلان الانفصال: خلفية تاريخيَّة

اتجهت أنظار الاستعمار الأوروبي مبكرًا إلى الصومال، فأخذت القوى الأوروبيَّة الكبرى، خلال القرن التاسع عشر، تتدافع فيما بينها للسيطرة على ما يُعرَف بـ”الصومال الكبير”؛ الذي يُغطّي الجزء الأكبر من منطقة القرن الإفريقي، وقسَّمته إلى خمس محميات، لتفصل بذلك بين أبناء القبيلة أو العشيرة الواحدة؛ حيث استولت بريطانيا على الجزء الشمالي، وأطلقت عليه “الصومال البريطاني”، واستقر الفرنسيون بدورهم في جيبوتي (الصومال الفرنسي)، فيما بسطت إيطاليا نفوذها على الصومال الإيطالي الذي يشمل الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة الصوماليَّة، قبل أن تتوسع غربًا لتضم إقليم الصومال الغربي (أوغادين) الذي يخضع اليوم لسيطرة إثيوبيا، وكانت بريطانيا، عام 1926م، قد اقتطعت جزءًا من الصومال وألحقته بكينيا، فيما أصبح يُعرَف بالصومال الكيني.

لكنّ مساعي الوحدة بين هذه الأقاليم الصوماليَّة الخمسة تحت راية وحكومة مركزيَّة واحدة اصطدمت بواقع الترتيبات الدوليَّة التي توافقت عليها القوى العُظمى بعد الحرب العالميَّة الثانية؛ حيث اقتصرت حدود دولة الصومال على الإقليمين البريطاني والإيطالي، بينما فرضت حكومات دول (جيبوتي، إثيوبيا، وكينيا) سيادتها على الأقاليم الصوماليَّة الأخرى الواقعة ضمن حدودها، والتي يرجع ترسيمها إلى حقبة الاستعمار.

بهزيمة إيطاليا المُبكّرة أمام الحلفاء في الحرب العالميَّة الثانية أُجبرت حكومتها على التخلي عن مُستعمراتها في شرق إفريقيا، بما في ذلك مُستعمرة الصومال، التي وُضعت تحت الإدارة العسكريَّة البريطانيَّة إلى أن أصدرت الجمعية العامة للأمم المُتحدة قرارها رقم 289 (د-4)، في 21 نوفمبر 1949م، والذي أوصت فيه بوضع الصومال تحت وصاية بريطانيا باعتبارها السُلطة القائمة بالإدارة في هذا الإقليم، إلى أن يُصبح دولةً مستقلةً ذات سيادة خلال مدة عشر سنوات من تاريخ الموافقة على اتفاقية الوصاية مِن قِبَل الجمعية العامة، على أن يكون للأمم المُتحدة مجلس استشاري يتكون من ممثلين عن كولومبيا ومصر والفلبين([1])، مهمته مساعدة الصومال وتهيئة أوضاعها الداخليَّة للانتقال من مرحلة الوصاية إلى الاستقلال التام.

وقبل انتهاء مرحلة الوصاية وانتزاع الصومال الإيطالي لاستقلاله بخمسة أيام، وتحديدًا في 26 يونيو 1960م، وافقت الحكومة البريطانيَّة بدورها على استقلال إقليم الصومال البريطاني، المعروف باسم صوماليلاند Somaliland أو أرض الصومال، وعلى إثر ذلك اجتمعت الأحزاب القوميَّة في شطري الصومال؛ الإيطالي والبريطاني، ووقَّعت اتفاقًا تاريخيًّا لإقامة دولة مركزيَّة موحدة باسم جمهورية الصومال، وذلك بحلول الأول من يوليو 1960م([2]).

غير أنَّ استقرار الدولة الصوماليَّة الموحدة لم يُعمر طويلاً، فسرعان ما ظهر عجز السُلطات في مقديشو عن بناء دولة مستقرة وتجاوز الصراعات والانقسامات العشائريَّة التي تستهدف السيطرة على مُقدّرات الدولة ومؤسساتها، وتفاقمت الأوضاع الداخليَّة في أعقاب الهزيمة المريرة للجيش الصومالي في حربه مع إثيوبيا (1977- 1978م)، وهي الحرب التي شنَّها الصوماليون بهدف استرداد إقليم الصومال الغربي (أوغادين) من إثيوبيا وإعادته إلى سيادة الصومال، تلا ذلك مُحاولة انقلاب فاشلة ضد نظام الرئيس “محمد سياد بري” الذي وصل بدوره إلى الحكم عبر انقلابٍ عسكري عام 1969م.

وقد شكَّلت هذه المُحاولة الانقلابيَّة مبررًا للرئيس بري لتشديد قبضته الحديديَّة على الصومال، والتنكيل بمُعارضيه وسحقهم، مما أدَّى إلى انتشار حركات التمرد المُسلحة المُعادية لنظامه في أرجاء الصومال، والتي كان يجمع بينها هدف مشترك يتمثل في سخطها ضد دكتاتورية بري، ورغبتها في الإطاحة به، وكان على رأسها “الحركة الوطنيَّة الصوماليَّة” التي نشطت في إقليم صوماليلاند، وانخرطت في قتال عنيف مع القوات الحكوميَّة، أسفر عن تدمير مدينة هرجيسا Hargeisa، عاصمة الإقليم، ووقوع مجازر مروّعة ضد سكان الإقليم.

وانتهزت الحركة الوطنيَّة الصوماليَّة سقوط نظام سياد بري، وأعلنت على لسان متحدثها، في مايو 1991م، استقلال الشمال عن الجنوب باسم جمهورية “أرض الصومال”، وعاصمتها هرجيسا، برئاسة عبد الرحمن علي نور، وتعيين حسين عيسى نائبًا له، وعلى الرغم من مُعارضة باقي الفصائل والحركات الصوماليَّة لانفصال الشمال، إلا أنَّ الشماليين اعتبروا أنَّ انفصالهم خطوة لا رجعة فيها([3]).

من الناحية الجغرافيَّة، نجد أنَّ إقليم صوماليلاند يقع في منطقة القرن الإفريقي، ويشغل الجزء الشمالي الغربي من جمهورية الصومال، وتشترك حدوده مع خليج عدن من الشمال، وإثيوبيا الاتحاديَّة من الجنوب والجنوب الغربي، فيما يحده إقليم بونتلاند الصومالي من الشرق، وجيبوتي من الشمال الغربي، وتبلغ مساحة صوماليلاند نحو 27,7% من إجمالي مساحة الصومال البالغة 636,657 كم2([4]) ويتكون إقليم أرض الصومال إداريًّا من العاصمة هرجيسا، إضافةً إلى ست مناطق (الشمال الغربي، أودل، الساحل، تغدير، سول، وساناغ)، وبحسب التعداد السكاني لعام 2017م، فقد بلغ سكان الإقليم 4,5 مليون نسمة؛ حيث يشكل البدو 55% من مجموع السُّكان، بينما تعيش النسبة المتبقية في المناطق الحضريَّة والريفيَّة([5]).

ويحظى موقع أرض الصومال بأهميةٍ استراتيجيَّةٍ؛ لكونه يُعدّ منطقةً حيويةً لأي تحركات عسكريَّة قادمة من الشرق أو الغرب من جانب القوى الكبرى المُتنافسة، كما يستمد الموقع أهميته من إشرافه على مضيق باب المندب([6])، وما يُمثله ذلك من أهمية بالنسبة لطرق التجارة البحريَّة التي تربط مناطق استخراج النفط في الخليج وشبه الجزيرة العربيَّة بالأسواق العالميَّة في أوروبا والولايات المُتحدة. ومُنذ اليوم الأول لإعلان انفصالها، واجهت حكومة صومالياند ترديًا في أوضاعها الاقتصاديَّة، لكن ليس بسبب تداعيات الحرب الأهلية وحدها، وإنما لافتقاد الإقليم الشمالي إلى المقومات والموارد الاقتصاديَّة الأساسيَّة، فضلاً عن عدم الاعتراف به من جانب المُجتمع الدوليّ، ولذلك تسعى حكومة صوماليلاند منذ ذلك الوقت لاكتساب الاعتراف الدوليّ بها([7]).

ثانيًا- مسوغات الانفصال عن الحكومة المركزيَّة في مقديشو

أعلنت أرض الصومال، كما ذكرنا، فضّ ارتباطها السياسي بالحكومة المركزيَّة في الصومال من جانبٍ واحد، في أعقاب سقوط نظام سياد بري، وتستند الحكومة الانفصاليَّة في دعواها إلى مجموعةٍ من المسوغات أو المُبررات التي تشكّل الأساس القانوني والسياسي لاستقلالها.

وأول هذه المسوغات هو ما يُعرَف بـ “حق تقرير المصير” الذي بات من أهم الحقوق الأساسيَّة التي أقرها القانون الدوليّ والمواثيق الدوليَّة المُعاصرة لدعم حركات التحرر الوطني ومساعي الشعوب لتقرير مصيرها السياسي، وكان الرئيس الأمريكي الأسبق “وودرو ويلسون Woodrow Wilson” قد طرح حق تقرير المصير كأحد المبادئ الأربعة عشر التي نادى بها بعد الحرب العالميَّة الأولى، وجاء ميثاق الأمم المُتحدة بدوره ليؤكد، بصفةٍ ضمنيَّةٍ، هذا الحق كأحد مقاصد المُنظمة الأمميَّة؛ إذ نصّت المادة (1/2) من الميثاق على “إنماء العلاقات الوديَّة بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها”.

وبموجب قرار الجمعية العامة رقم “2649”، الصادر في 30 نوفمبر 1970م، تحت عنوان “أهمية الإعمال العالمي لحق الشعوب في تقرير المصير ومنح الاستقلال السريع للبلدان والشعوب المستعمرة لضمان حقوق الإنسان ومراعاتها على نحو فعَّال”، أدانت الجمعية العامة إنكار حق تقرير المصير للشعوب، وأكدت من جديد أنَّ نضال الشعوب لتقرير مصيرها يتسق وأحكام القانون الدوليّ والقرارات الشرعيَّة ذات الصلة، وأنَّ لها أن تستعيد ذلك الحق بأي وسيلة من الوسائل التي تتوفر لها شريطة الالتزام بما ورد في قواعد ومبادئ القانون الدوليّ([8])، ومِن ثَمَّ يُشكّل حق تقرير المصير الأساس الذي تستند إليه جمهورية صوماليلاند لإضفاء المشروعية الدوليَّة على انفصالها.

يقدم مساندو انفصال صوماليلاند حجةً أخرى تتعلق بعدم قانونية الاتحاد بين أرض الصومال والصومال الإيطالي، معتبرين أنَّ الدمج والوحدة بين الإقليمين لم تتم بطريقةٍ قانونيَّة، ولقد لاقت هذه الحجة قبولاً في التقرير الصادر عام 2005م عن بعثة تقصّي الحقائق التابعة للاتحاد الإفريقي؛ حيث أعدت البعثة، التي أُرسلت إلى الإقليم بناءً على طلبٍ حكومة صوماليلاند، تقريرًا جاء فيه “إنَّ الاتحاد لم يعمل على نحو مُرْضٍ خلال فترة استمراره بين عامي 1960 و1990م، الأمر الذي يجعل من بحث صوماليلاند عن الاعتراف أمرًا مُبرَّرًا في التاريخ السياسي الإفريقي، ومِن ثمَّ، يجب على الاتحاد الإفريقي أن يبحث عن طريقةٍ خاصةٍ للتعامل مع الإقليم الانفصالي”([9]).

كما تستند مطالب أرض الصومال بالاستقلال إلى الملكية التاريخيَّة، أي تاريخها الاستعماري المنفصل، وتقدُّمها في الحصول على الاستقلال من بريطانيا على استقلال جنوب الصومال من إيطاليا عام 1960م، ودخولها طواعيةً في قانون الاتحاد لعام 1960م مع جنوب الصومال بعد استقلال الأخير وانتهاء مرحلة الوصاية، وعليه فإنَّ استقلال أرض الصومال يُعيد الحدود الاستعماريَّة للمحمية البريطانيَّة السابقة لصوماليلاند، وبالتالي لا ينتهك مبدأ الملكية الشاملة للدولة الصوماليَّة([10]).

نُشير أيضًا في هذا السياق إلى الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وعمليات القتل والتدمير التي مارسها نظام الرئيس سياد بري ضد سُكان إقليم صوماليلاند، وهذه المُمارسات تُشكّل دافعًا قويًّا ومبرّرًا للتمرد في النظم القانونيَّة الدوليَّة. إذ تعترف ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالحق في التمرد ضد حكومة مذنبة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وكذلك الاتفاقية الدوليَّة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، كما تنص هذه المواثيق بوضوح على حقوق مُعينة مثل عدم التعرض للتعذيب، أو الاحتجاز دون اتهامات أو محاكمة، والحق في الحياة والحرية والأمن، ولا يجوز انتهاك هذه الحقوق تحت أيّ ظرف من الظروف كونها تُشكّل قواعد آمرة، وإذا انخرطت المؤسسة السياسيَّة في انتهاك هذه الحقوق فإنَّ للشعب تقرير مصيره من خلال الانفصال([11]).

يُضاف إلى ما سبق مسوغ آخر، يتمثل في الانفصال الدستوري؛ حيث نظَّمت حكومة صوماليلاند استفتاءً شعبيًّا على دستور 2001م، وجاء في المادة الأولى من هذا الدستور “أن تكون صوماليلاند دولةً مستقلةً ذات سيادة”، وجاءت نتيجة الاستفتاء بنسبة 97% لصالح إقرار الدستور بالرغم من تشكيك بعض المنتقدين في نزاهة هذا الاستفتاء([12]). ومع ذلك فهو يشكّل خطوة أخرى على طريق الاستقلال، ويؤكد وجود ظهير شعبي يدعم القيادة السياسيَّة لإقليم أرض الصومال في توجهاتها الانفصاليَّة عن حكومة مقديشو.

ثالثًا- التحديات التي تواجه انفصال صوماليلاند داخليًا وخارجيًا

على الرغم من انقضاء أكثر من ثلاثة عقود على انفصال إقليم صوماليلاند وإعلانه إلغاء قانون الاتحاد مع حكومة الصومال من جانبٍ واحدٍ؛ إلا أنَّ الإقليم لا يزال يواجه العديد من التحديات التي تُشكّل حجر عثرة على طريق الاستقلال وانتزاع الاعتراف الدوليّ، ولا تقتصر هذه التحديات على الداخل فقط، وإنما تشمل أيضًا تحديات خارجيَّة، وذلك على النحو الآتي:

أ- التحديات الداخليَّة

تتعدد التحديات الداخليَّة التي تواجه حكومة صوماليلاند، ونذكر منها ما يلي:

1- الاختلافات والتجاذبات العشائريَّة

عند استقراء المواقف السياسيَّة للعشائر الصوماليَّة في إقليم صوماليلاند من مشروع الانفصال؛ نلحظ أنَّ تأييد الانفصال يكاد ينحصر في عشائر “إسحاق” ذات الأغلبية في أقاليم الوسط، في حين تُعارض عشائر “هرتي دارود” الانفصال، وهي العشائر التي تشكّل الأغلبية في محافظتي “سول” و”سناغ” المُتنازع عليهما بين إقليم أرض الصومال وبونتلاند. ومن ناحيةٍ أخرى تُعارض عشيرة “سمرون”، التي تشارك عشائر إسحاق الانتماء القبلي، الانفصال أيضًا([13]). ولا شك أنَّ هذا الاختلاف وغياب التوافق السياسي في مواقف العشائر من شأنه إضعاف التماسك الداخلي لجمهورية صوماليلاند وتقويض وحدتها.

2- استمرار التوترات والنزاعات الحدوديَّة

لم تستقر الحدود السياسيَّة لإقليم صوماليلاند حتى اللحظة؛ إذ لا تزال مدينة لاسعانود، عاصمة منطقة سول الواقعة شمال الصومال، تشكّل بؤرة نزاع مستمر بين قوات هرجيسا والمليشيات العشائريَّة المُسلحة الموالية لحكومة مقديشو، وتمتلك مدينة لاسعانود تأثيرًا جيوسياسيًّا وأمنيًّا في الأقاليم الشماليَّة، بحكم وقوعها في منطقة تفصل الحدود الجغرافيَّة بين ولاية بونتلاند وأرض الصومال؛ ما جعلها منطقة صراعات سياسيَّة وعسكريَّة منذ قرابة عقدين([14]).

وكان مجلس الأمن الدوليّ، قد أصدر بيانًا في 7 يونيو 2023م، أدان فيه الخسائر التي لحقت بالمدنيين جراء تصاعد الاشتباكات بين صوماليلاند والقبائل العشائريَّة، ودعا مجلس الأمن قوات الأمن التابعة لأرض الصومال إلى الانسحاب الفوري من مدينة لاسعانود الصوماليَّة، فيما أعلنت صوماليلاند حقها في حماية منطقة سول وعاصمتها لاسعانود باعتبارها جزءًا من حدودها([15]). ويمكن لاستمرار هذه النزاعات الحدوديَّة أن يُنذر بتأجيج المشهد الداخلي، ويقوّض الصورة النمطية التي تحاول حكومة الإقليم تصديرها إلى العالم الخارجي والتي تفيد بأنَّ صوماليلاند أكثر أقاليم القرن الإفريقي استقرارًا.

3- اتساع الفجوة التنمويَّة بين الشرق والغرب

يكشف الواقع الاقتصادي والتنموي في إقليم صوماليلاند الانفصالي عن وجود فجوة تنمويَّة واضحة بين شرق الإقليم وغربه، فبينما تحظى المناطق الغربيَّة بالازدهار والأمن وتوافر الخدمات الأساسيَّة؛ فإنَّ الأقاليم الشرقيَّة يعتريها التهميش، فهي أقل تطورًا وتفتقر إلى معظم الخدمات الأساسيَّة، ولقد أدى وجود مثل هذه الفجوة إلى زيادة حالة الغضب والسخط من جانب عشائر المناطق الشرقيَّة، وبخاصة عشائر “سول” و”سناج”، وما يُمكن أن يترتب على حالة الغضب تلك من تآكل شرعية حكومة صوماليلاند([16]) وتراجع النزعة الانفصاليَّة في الإقليم.

ب- التحديات الخارجيَّة

بالإضافة إلى التحديات الداخليَّة المذكورة، تواجه حكومة صوماليلاند تحديين آخرين على الصعيد الخارجي، وهما غياب الاعتراف الدوليّ، والمُفاوضات مع حكومة الصومال الفيدراليَّة.

1- غياب الاعتراف الدوليّ

على الرغم من توافر الأركان الثلاثة الرئيسيَّة اللازمة لقيام دولة صوماليلاند؛ الشعب والإقليم، والسُلطة الحاكمة، إلا أنَّ ذلك ليس كافيًا لنشوء الدولة وتمتعها بالشخصية القانونيَّة؛ فلا بد أن يتبع هذه الأركان الثلاثة ركن رابع؛ يتمثل في الاعتراف بالدولة مِن قِبَل المُجتمع الدوليّ([17]).

ويأخذ الاعتراف بالدولة الجديدة إحدى صورتين؛ فقد يكون الاعتراف صريحًا أو ضمنيًّا؛ فيكون الاعتراف صريحًا إذا نصت عليه معاهدة بين الدولة المعترفة والدولة المُعترَف بها يقضي باعتراف الأولى باستقلال الثانية، وقد يتم الاعتراف الصريح من خلال وثيقة دبلوماسيَّة أو إعلان رسمي يصدر عن حكومة الدولة المعترفة، بينما يكون الاعتراف ضمنيًّا حينما تدخل الدولة المعترفة في علاقات مع الدولة الجديدة، مثل تبادل البعثات الدبلوماسيَّة أو توقيع الاتفاقيات والمُعاهدات الدوليَّة في المجالات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، أو من خلال قبول الدولة الجديدة في عضوية المُنظمات الدوليَّة والإقليميَّة([18]).

فبعد ثلاثة عقود على انفصالها، ما تزال أرض الصومال خارج دائرة الاعتراف الدوليّ، ورغم انخراطها في علاقات تجاريَّة واقتصاديَّة مع أطراف دوليَّة عدة، إلا أنَّ ذلك ليس كافيًا لحمل هذه الأطراف على إعلان اعترافها بجمهورية صوماليلاند. فمن ناحية، يرى الاتحاد الإفريقي أنه ملزم تجاه الصومال بدعم استقراره والحفاظ على وحدته الترابيَّة، كما أنَّ الاعتراف باستقلال صوماليلاند من شأنه أن يفاقم التوتر في منطقة القرن الإفريقي التي تُعاني بالأساس من استقرارٍ هشّ، ومن ناحيةٍ أخرى، قد يشجّع اعتراف الاتحاد الإفريقي بأرض الصومال الأقاليم الأخرى الساعية إلى الانفصال، مثل إقليم بيافرا في نيجيريا، وإقليم تيغراي في إثيوبيا، وغيرها من الأقاليم الأخرى. أما الحكومات الغربيَّة من جهتها، فمن المؤكد أنها لن تبادر بمنح الاعتراف لإقليم صوماليلاند ما لم يسبقها الاتحاد الإفريقي إلى اتخاذ هذه الخطوة.

ويقترن غياب الاعتراف الدوليّ بإقليم صوماليلاند بمشكلةٍ أخرى، تُشكّل تحديًا محوريًّا أمام حكومة هرجيسا، تتمثل في صعوبة الحصول على المُساعدات الخارجيَّة، أو القروض التي توفرها المُنظمات الدوليَّة، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، لمُساعدة الحكومات على مواجهة الاختلالات في موازين المدفوعات ودعم مشاريع الإعمار والتنمية؛ باعتبار أنَّ جمهورية صوماليلاند لا تتمتع بعضوية هاتين المنظمتين أو غيرهما من المُنظمات الإقليميَّة المانحة.

بالرغم من ذلك، شهدت الفترة من 2018 إلى 2024م تعهُّد أطراف دوليَّة عدة، كالمملكة المُتحدة والدنمارك وهولندا والنرويج بتخصيص مبلغ 38 مليون دولار لمشاريع البنية التحتيَّة في أرض الصومال، كما أنَّ الاستثمار الذي تبلغ قيمته ملايين الدولارات من قبل موانئ دبي العالميَّة الإماراتيَّة والذي يرمي إلى تحويل ميناء بربرة إلى مركز تجاري يضم مليون حاوية، من شأنه أن يُعيد تشكيل الاقتصاد الإقليمي من خلال ربطه بإثيوبيا، عبر العاصمة هرجيسا، بطريق سريع بطول 250 كيلو مترًا، وفي يناير 2023م، تم الكشف عن وجود آبار نفطيَّة في منطقة مارودي جيكس المركزيَّة في أرض الصومال، مما يزيد من فرص تدفق إيرادات جديدة مُربحة لجمهورية أرض الصومال([19]).

وتتطلع حكومة صوماليلاند، بدايةً، إلى دول الإقليم والجوار الجغرافي لانتزاع اعتراف منها باستقلالها، كخطوةٍ أولى تُحفّز من خلالها الدول الأخرى على إعلان اعترافها بالدولة الانفصاليَّة. وتحقيقًا لهذه الغاية، بادرت حكومة صوماليلاند، في الأول من يناير 2024م، بتوقيع مذكرة تفاهم مع إثيوبيا، وبحسب ما ورد في النصوص المُعلنة من المذكرة، وافقت سُلطات هرجيسا على السماح لأديس أبابا بالوصول إلى 20 كيلو مترًا من سواحلها لمدة 50 عامًا([20])؛ كما سيتيح الاتفاق لإثيوبيا إمكانية استئجار قاعدة عسكريَّة بالقرب من ميناء بربرة الواقع على خليج عدن، مما سيُمكِّن أديس أبابا من الوصول إلى ممرات الشحن في البحر الأحمر عبر مضيق باب المندب بين جيبوتي واليمن([21]).

في مُقابل ذلك، تعترف الحكومة الإثيوبيَّة بأرض الصومال كدولةٍ مُستقلة، وحصول حكومة الإقليم الانفصالي على حِصَّة قدرها 20% من الخطوط الجويَّة الإثيوبيَّة([22]). وفي حال مضت إثيوبيا في تنفيذ هذا الاتفاق، فإنَّ اعترافها بجمهورية صوماليلاند كدولةٍ مُستقلةٍ ذات سيادة سيُمثل خطوة غير مسبوقة، إذ لم يسبق لأيّ دولة أخرى أن اعترفت باستقلال أرض الصومال، باستثناء تايوان، التي تفتقر بدورها إلى الاعتراف الدوليّ ولا تتمتع بعضوية الأمم المُتحدة.

2- المُفاوضات مع الحكومة الصوماليَّة

تُشكّل المُفاوضات بين سُلطات إقليم صوماليلاند وحكومة الصومال الفيدراليَّة تحديًا مهمًّا على الصعيد الخارجي، من أجل تحديد ملامح العلاقة بين الطرفين والتوصل إلى تسوية بشأن النزاعات الحدوديَّة والقضايا الأخرى محل الخلاف بين الجانبين. وكانت حكومة صوماليلاند قد رفضت الانخراط في أي مُباحثات مع الحكومة المركزيَّة في مقديشو حتى تعترف الأخيرة باستقلالها كشرطٍ مُسبقٍ لبدء المُفاوضات. وجاءت أولى جولات التفاوض عام 2012م، ثم عُقدت جولات أخرى برعاية بعض الأطراف الإقليميَّة، وكانت آخر جولة من المُباحثات قد استضافتها جيبوتي، أواخر العام 2023م، والتي عُقدت بين الرئيس الصومالي “حسن شيخ محمود” ونظيره “موسى بيحي عبده” رئيس صوماليلاند، وتضمن البيان الختامي لهذه الجولة ضرورة استئناف المُفاوضات السياسيَّة بين الطرفين، وتنفيذ الاتفاقيات المُبرَمة بينهما منذ عام 2012م، لكنَّ مذكرة التفاهم التي أبرمتها حكومة صوماليلاند مع إثيوبيا في الأول من يناير 2024م، والتي لاقت اعتراضًا شديدًا من جانب الحكومة الصوماليَّة، ستُفضي حتمًا إلى انتكاسة المسار التفاوضي وتقويض أيّ فرصة لدفع المُباحثات إلى الأمام.

خاتمة:

بعد أكثر من ثلاثة عقود على انفصال إقليم “صوماليلاند” عن الحكومة المركزيَّة في الجنوب، ما تزال حكومة الإقليم تُبدي تمسكًا صلبًا بخيار الاستقلال التامّ، وترفض أي مقاربات سياسيَّة بديلة، كالحكم الذاتي تحت مظلة الفيدراليَّة. وعلى الرغم من توافر المسوغات القانونيَّة والسياسيَّة التي تراها حكومة الإقليم كافيةً لدعم مسارها الانفصالي؛ إلا أنَّ جمهورية أرض الصومال تُعاني حتى اللحظة من غياب الاعتراف الدوليّ بها، الأمر الذي يحول بالتالي دون انخراطها في العلاقات السياسيَّة والاقتصاديَّة مع الفاعلين الدوليين، أو تمتعها بعضوية المُنظمات الدوليَّة والتكتلات الاقتصاديَّة، أو حصولها على القروض والمُساعدات الخارجيَّة أسوةً بالدول الأخرى المُستقلة والمتمتعة بالاعتراف الدوليّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى