على مدى الأسابيع والأيام الأخيرة اتجهت الأوضاع في ليبيا الشقيقة نحو مزيد من التدهور ليس فقط في غرب ليبيا -في طرابلس- ولكن أيضا في شرقها -في بنغازي- وازدادت التحذيرات المباشرة وغير المباشرة من داخل ليبيا وخارجها، مما يمكن أن تتطور إليه الأوضاع، وأعرب كثير من الأطراف المحلية والإقليمية والدولية عن قلقها مما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع الليبية خاصة في هذه الظروف الراهنة التي تعاني من الانقسامات والاستقطاب وتعدد وتضارب التدخلات الخارجية التي تضع مصالحها الخاصة قبل المصالح الليبية، بغض النظر عن الشعارات التي يرفعها كل طرف في الظروف والمواقف المختلفة، وهذا الوضع هو في الواقع نتيجة لما شهدته ليبيا من أحداث منذ عام 2011 على الأقل والنهاية المأساوية لحكم العقيد القذافي، وفي ظل التدهور السريع للأوضاع الداخلية وكجزء منها نشطت اتصالات ومقابلات ولقاءات بين مسؤولين ليبيين وأجانب في محاولة لاحتواء تدهور الموقف والحد من إمكانية اتجاهه إلى الأسوأ، ومما لا شك فيه أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين محاولة رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح إنهاء ولاية رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة المعترف بها دوليا والاعتراف فقط بحكومة أسامة حماد التي عيّنها مجلس النواب باعتبارها الحكومة الشرعية في ليبيا، وهو ما رفضه عبد الحميد الدبيبة استمرارا لموقفه السابق، وبين ظهور مشكلة المصرف المركزي ومحاولة السيطرة عليه بالقوة المسلحة من جانب عناصر خارجة على القانون حسبما وصفها مجلس النواب الليبي في بيانه في 25 أغسطس الماضي. وتتجسد أهمية موقف مجلس النواب في لجوئه إلى الخيار الأسهل بأن قرر وقف إنتاج وتصدير النفط في الحقول الليبية خوفًا من محاولات اقتحام المصرف المركزي الليبي من جانب عناصر خارجة على القانون، بدلا من تكليف قوات الأمن والجيش بممارسة دورها ومهامها في حماية المصرف المركزي والعاملين فيه تحت كل الظروف. ولعل ما يؤكد هذا الارتباط بين الحدثين أنهما جاءا متعاقبين من ناحية وعدم الإفصاح عن هوية الميليشيات التي هددت باقتحام المصرف المركزي الليبي ومارست التهديد ضد محافظ المصرف المركزي صادق الكبير وعدد من كبار العاملين في المصرف في نهاية الأسبوع الماضي لدرجة أنهم قرروا مغادرة ليبيا إلى الخارج خوفًا على حياتهم، وبالتالي تم وقف العمل في المصرف المركزي مؤقتًا في نهاية الأسبوع الماضي انتظارا لما ستؤول إليه الأوضاع مستقبلا، وما إذا كان المصرف سيستأنف عمله أم سيواصل توقفه عن العمل اكتفاء بالأداء الإلكتروني من ناحية ثانية. وفي هذا الإطار فإنه من الأهمية بمكان في هذه الظروف الإشارة إلى قوة الطرف الذي يحرك الميليشيات للقيام بهذه الأعمال أو التهديد بها، ولعل من أهم هذه الجوانب أولا، أن ظهور مشكلة إدارة المصرف المركزي الليبي في هذه الظروف وبهذه السرعة تعبر في الواقع عن قوة الجهة المحركة للميليشيات التي مارست التهديد ضد المصرف المركزي وهو تهديد ليس معارضا للإدارة السابقة للمصرف التي أخذ عليها ملاحظات مختلفة منها الارتباط الوثيق مع رئيس الوزراء الدبيبة وتنفيذ قراراته بشأن الميزانية والإنفاق المالي العام ووضع أموال في بنوك لا تتمتع بقوة أو مصداقية كبيرة مما يؤثر على أموال المودعين وقد يؤثر على سمعة المصرف في خارج ليبيا.
وعلى ذلك فإنه من المفهوم أن الدبيبة سارع إلى تحريك إحدى ميليشياته لخلط الأوراق ولتعقيد الأحداث في الواقع ولعرقلة عملية أو محاولة الإطاحة به، والرجوع فيها وهو ما حدث في الواقع. جدير بالذكر أنه في الوقت الذي أطلقت فيه الميليشيات سراح أحد موظفي المصرف المركزي الذي اختطفته الأسبوع الماضي كما أن أعضاء الإدارة السابقة للمصرف المركزي قررت السفر إلى الخارج خوفا على حياتها وهو بمثابة هروب ولا يعبر عن إدارة مستقرة وسليمة للمصرف المركزي الليبي من ناحية، ويجعل سيف التهديد مسلطًا على رقاب الإدارة السابقة أو كبار عناصرها على الأقل من ناحية ثانية. كما يجعل تعيين إدارة جديدة مسألة تخضع لجدل وشد وجذب وإلى ضرورة توافق لا غنى عنها بين مجلس النواب ومجلس الدولة والمجلس الرئاسي ولا يجوز حصار أحدهما للأخرى لأي سبب؛ لأن ذلك يعرقل في الواقع عمل القيادة الليبية في النهاية.
ومن هنا فإن عقيلة صالح دعا إلى عودة المحافظ السابق -الذي غادر البلاد- وأكد أن المصرف المركزي سيظل مغلقا حتى يعود المحافظ السابق إلى منصبه السابق فضلا عن استمرار إغلاق حقول النفط الليبية حتى هذه العودة كذلك، وبالفعل انخفض إنتاج النفط الليبي بنحو النصف تقريبا. وقد تردد أن هناك تعليمات باستئناف الإنتاج في 3 حقول نفطية وهو مؤشر إيجابي. ولعل ما يسهل عودة محافظ المصرف المركزي السابق لمنصبه أنه كان قد رفض قرار إقالته من منصبه السابق، وأن المحافظ الجديد محمد شكري كان قد تم تعيينه من جانب المجلس الرئاسي وهو ما اعترض عليه مجلس النواب ومجلس الدولة باعتبار أنه ليس من حقه المشاركة في هذه العملية، ومن ثم اكد مجلس النواب ومجلس الدولة بقاء المحافظ السابق في منصبه ويعد هذا مدخلا ممكنا للتوافق والخروج من هذا المأزق الذي كان يمكن أن يتطور إلى مشكلة أكبر تؤثر على المصرف المركزي وممارسته لدوره، خاصة وأن ليبيا تستورد أكثر من 99% من احتياجاتها السلعية وأي ارتباك في هذا المجال ستكون عواقبه مؤثرة على الاقتصاد الليبي.
ثانيا: إن الصراع على السلطة والتشبث بالبقاء في مواقعهم الحالية هو القاسم المشترك بين رئيس حكومة لا توجد لديه حماسة كافية لحكومة منتخبة رغم كل تأكيداته السابقة بالتحضير للانتخابات. والشخصية الثانية عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي وهو الهيئة الليبية الوحيدة المنتخبة من الشعب الليبي وهو يستمد من انتخابات مجلس النواب قوته وتأثيره. والشخصية الثالثة هي رئيس المجلس الأعلى للدولة والذي يضم شخصيات ممثلة للأقاليم الليبية وهي من أهم المقومات الاجتماعية الليبية وللقبائل الليبية باعتبارها من ركائز المجتمع الليبي. وخالد المشري هو رئيس المجلس الأعلى للدولة ويعارض عقيلة صالح في أي دور للمجلس الأعلى للدولة والمشاركة في مناقشة أدوار المؤسسات الأخرى ومنها على سبيل المثال قرار تعيين محمد الشكري محافظًا جديدًا للبنك المركزي والذي اعترض عليه كل من عقيلة صالح رئيس مجلس النواب ومحمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي.. الشخصية الرابعة هي محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي وهو يميل إلى الحلول الوسطية وإلى التوافق بين القيادات الليبية حتى يمكن الوصول إلى حلول تحظى بأكبر قدر من التوافق والاتفاق فيما بينها. وفي ضوء ذلك وبرغم وجود شخصيات أخرى تتطلع إلى خوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية إلا أنه رغم أن الجميع يكرر دوما الحديث عن الانتخابات غير أنه لا توجد حماسة كافية لإجراء الانتخابات بشكل يجعل منها إضافة لصالح ليبيا اجتماعيا وسياسيا وأن الجميع يرضى بالأمر الواقع الراهن؛ لأنه لا يوجد من يملك القوة أو القدرة على تغييره وأن الميليشيات تريد دوما ثمن خدماتها ممن تقدمها إليه.
ثالثا: إنه إذا كان المصرف المركزي الليبي قد قام بدور مؤثر لصالح عبد الحميد الدبيبة من واقع سيطرته الفعلية كرئيس وزراء لحكومة الوحدة الوطنية المعترف بها دوليا خاصة في العام الأول لتوليه السلطة كحكومة شرعية، وهو ما استمر حتى الآن، فإن ظهور مشكلة المصرف المركزي وتفكير بعض الأطراف في اللجوء إلى السلاح وأعمال الترهيب يشير بوضوح إلى الأهمية الكبيرة للمصرف المركزي وللدور الذي يقوم به في ظل العائدات الضخمة لصادرات النفط الليبي والتي بلغت 20.7 مليار دولار العام الماضي وسجلت 7.6 مليار دولار في النصف الأول من هذا العام حسب بيانات المصرف المركزي، وتجدر الإشارة إلى أن الدبيبة أرسل قوات مسلحة إلى جدامس في اتجاه غرب ليبيا كما أن بعض قوات خليفة حفتر تحركت في اتجاه جنوب غرب ليبيا بزعم حماية تلك المناطق. ومع ظهور مظاهر حشد عسكري من جانب قبائل الزنتان وقوات مصراتة ـ فإنه يبدو أن الأزمة قد تتجه نحو التهدئة خاصة بعد التحركات الأمريكية والدولية والقلق الليبي الداخلي الملحوظ من عودة أجواء الحرب الأهلية التي استمرت بين عامي 2014 و2020 والتي لا يرغب فيها الليبيون. وليس من المبالغة القول أن أزمة المصرف المركزي يمكن أن تكون مدخلا لتوافق أوسع بين الفرقاء إذا أدركوا أن التوافق يخدم المصلحة المشتركة وأن التنافس والصراع يضر بالجميع في النهاية وبحاضر ومستقبل ليبيا وشعبها الشقيق.