المصالح الإقليمية في منطقة الساحل وإعادة صياغة خريطتها الجيوسياسية
إذا كانت مجموعة فاجنر تعمل على تعطيل باريس في منطقة الساحل؛ فيبدو أنها تهدف إلى العمل على الجبهة الأمنية، بينما بدأت شركات البناء والتعدين الصينية في العمل على الجبهة الاقتصادية منذ أواخر التسعينيات.
في وقتٍ سابقٍ من هذا الصيف، تورَّط مقاتلون روس في اشتباكٍ دامٍ في شمال دولة مالي. وفي 27 يوليو الماضي، تعرَّضت دورية تابعة لجيش مالي، مصحوبة بقوات إضافية من مجموعة فاجنر، إلى كمين أعدَّه المتمردون الطوارق بالقرب من بلدة تينزاواتين على الحدود الجزائرية.
وأعلن الجيش المالي عن تعرُّضه لخسائر فادحة، لكنَّه لم يذكر تفاصيل بشأن الواقعة. وانتشرت مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي تُظهِر مركبات مُدمَّرة وعشرات الجثث مُلقاة في الصحراء. وذكرت وسائل الإعلام الروسية، آنذاك، أن حوالي عشرين من مرتزقة فاجنر قد لقوا حتفهم، بينما أعلن المتمردون أن ما يصل إلى ثمانين من مرتزقة فاجنر قد لقوا مصرعهم. ويبدو أن عاصفة رملية عرقلت سير القافلة وتركتها عَالِقة في مواجهة الخطر. واتهم المتحدث باسم تحالف المتمردين القوات الحكومية بتنفيذ ضربات انتقامية بطائرات بدون طيار أسفرت عن مقتل حوالي عشرة مدنيين في المنطقة.
وعقب وقوع الهجوم، زعم مدير الاستخبارات العسكرية الأوكرانية أن عملاءه قاتلوا إلى جانب المتمردين الطوارق. ودعمت الصور التي أظهرت مقاتلين يرتدون زيًّا باللونين الأبيض والأسود، ويحملون أعلام متمردي أزواد وأوكرانيا، ذلك الادعاء. ولن تكون هذه هي المرة الأولى التي تُنشَر فيها قوات أوكرانية في إفريقيا. ففي نوفمبر 2023م، تواترت أنباء عن مشاركة مائة من القوات الخاصة الأوكرانية في عمليات ضد ميليشيات مدعومة من فاجنر في السودان. وفي مالي، ترددت مزاعم عن أن عملاء أوكرانيين يُدرّبون المتمردين الطوارق على استخدام طائرة مافيك 3 برو “طراز أيه كيه -47″، وهي طائرة بدون طيار خفيفة الوزن تُستخدَم للاستطلاع عن قُرب ومجهزة بقنابل يدوية.
دور مجموعة فاجنر الروسية:
تُعدّ واقعة الكمين المُشار إليها أعلاه بمثابة أول هزيمة كبرى في إفريقيا مُنِيَت بها مجموعة فاجنر، والتي كانت تابعة رسميًّا لوزارة الدفاع الروسية منذ الانقلاب الفاشل في يونيو 2023م. لقد انتشرت المجموعة العسكرية الخاصة، لأول مرة، في شبه جزيرة القرم في عام 2014م، وكانت نشطة في إفريقيا منذ عام 2017م، ولديها عملاء فيما يقرب من ثماني دول، بدءًا من ليبيا وحتى موزمبيق.
جدير بالذِّكر أن مجموعة فاجنر تعمل، بطريقة مشابهة، لتنظيم له فروع مستقلة جزئيًّا. إلى جانب القيادة الروسية، تقوم المجموعة بتكليف مقاتلين محليين وقدامى المحاربين بمهام في الصراعات المجاورة (خاصة من ليبيا وسوريا). من بين المرتزقة الخمسة آلاف الذين تنشرهم فاجنر في إفريقيا، يوجد 1500 في مالي وحدها. وهو ما يقرب من نصف العدد الذي تمركز هناك كجزء من عملية برخان -مهمة مكافحة التمرد الفرنسية في الساحل-. ومنذ تولي العقيد “أسيمي غويتا” السلطة في مايو 2021م، تولت فاجنر تدريجيًّا قيادة هذه العملية.
وتستخدم الحكومة في باماكو مجموعة فاجنر لمحاربة الانفصاليين من الحركة الوطنية لتحرير أزواد (تنسيقية حركات أزواد)، وهو تحالف من ميليشيات الطوارق النشطة في شمال غرب البلاد. وتدعو تنسيقية حركات أزواد إلى إنشاء دولة مستقلة. وتعني أزواد (“أرض الترحال”)، وهي منطقة مساحتها 800 ألف كيلو متر مربع من الصخور والرمال حول مدن “تمبكتو” و”غاو” و”كيدال”. ويبلغ عدد مقاتليها نحو 3000 مقاتل، ومن المرجَّح أنهم مُجهَّزون بأسلحة وذخيرة تركتها قوات مالي النظامية وراءها.
وفي الاشتباكات الأخيرة، بدا أن القوات الحكومية تتمتع بأفضلية؛ حيث مكَّنتها عملية جوية نسَّقتها “فاجنر” من استعادة مدينة “كيدال” في نوفمبر الماضي، وبعد مرور أكثر من عشر سنوات من اتفاق توسَّطت فيه فرنسا والجزائر تم ترك المدينة للمتمردين، ومع انتهاء عملية برخان، وضع المجلس العسكري استعادة المدينة على قائمة أولوياته كرمز لاستعادة سيادة دولة مالي.
من ناحية أخرى، تسعى مجموعة فاجنر إلى تقديم بديل شامل للوجود الفرنسي في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ويقوم جنودها المرتزقة بتزويد وتدريب القوات المسلحة وكذلك الحرس الرئاسي، الذي كان يُعرَف تقليديًّا بكونه يمثل أهم عامل قوة بالنسبة لباريس داخل الأنظمة “الصديقة”.
لكنّ المجموعة تقدم أيضًا الدعم غير العسكري، أي شبكة من الشركات التي تتنافس مع المصالح الاقتصادية الفرنسية؛ فهي توفّر الوصول إلى خطوط الائتمان، وتنظم إدارة أنشطة التعدين والغابات، وحتى إنتاج الفودكا والبيرة المحلية على حساب مجموعة المشروبات الفرنسية (كاستل).
وعلى الطريقة الاستعمارية الكلاسيكية ولكن بقدر من الحداثة؛ تقدم فاجنر خدماتها مقابل التنازلات. ففي مالي، نجحت المجموعة في تأمين حدوث تغيير في قانون التعدين يمنح السلطات السياسية المحلية مزيدًا من السيطرة على حساب الشركات الأجنبية ذات السيادة، فيما تظل تفاصيل هيكل الرسوم غامضة. وقد ذكرت صحيفة “لوموند” الفرنسية اليومية أن 135 مليون يورو من ميزانية الدفاع في مالي لعام 2022م ذهبت لصالح فاجنر (أي: أقل بكثير من التكلفة السنوية البالغة 600 مليون يورو لعملية برخان).
إن منطقة الساحل -مثلها مثل منطقة القرن الإفريقي؛ حيث تنتشر الحرب بالوكالة في اليمن بقيادة دول الخليج-، تقع في قلب ما أُطلِقَ عليه البعض “سباق جديد نحو إفريقيا”.
لقد أعادت الموجة الأخيرة من التغييرات في الأنظمة، والتي حدثت في بعضها بوسائل ديمقراطية وفي البعض الآخر بالقوة، ترتيب المشهد الجيوسياسي. لقد تزامن انسحاب القوات الفرنسية مع صعود كتلة إستراتيجية جديدة، وتم إضفاء الطابع الرسمي عليها من خلال إنشاء تحالف دول الساحل في سبتمبر 2023م. وكان الهدف من هذا الاتحاد المكوّن من مالي والنيجر وبوركينا فاسو إيجاد ثِقَل موازن للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) ومنظمة مجموعة الدول الخمس في منطقة الساحل، وكلاهما يعتبران دُمًى في يد فرنسا.
لقد وفَّر الطلب على قادة عسكريين موثوق بهم -في منطقةٍ عادةً ما تخلق جيوشها الوطنية-، حالةً من عدم الاستقرار السياسي بها، وخلق أرضًا خصبة للجهات الفاعلة الخاصة. وبالتالي مكَّنت مجموعة فاجنر موسكو من اكتساب موطئ قدم في منطقة تخلَّت عنها روسيا، إلى حد كبير، منذ نهاية الحرب الباردة. لقد أعطت مؤخرًا عملياتها هناك وجودًا جديدًا من خلال إعادة تسميتها بـ”فيلق إفريقيا”.
اشتباك فرنسا:
لقد أصبح حزام الصحراء الكبرى والساحل محل نزاع شديد، ولا سيما بسبب موارده الغنية. مثل هذه الصراعات التعدينية راحت تضرّ بمصالح السكان المحليين، على وجه التحديد، وخاصةً في النيجر، أحد أكبر منتجي اليورانيوم في العالم. وقد قامت فرنسا بتشغيل العديد من المناجم هناك منذ الستينيات، فيما يشبه احتكار كامل من قِبل شركة “كوجيما” -التي سُميت لاحقًا “أريفا”، والآن “أورانو”-، وهي حجر الزاوية في سيادة الطاقة في البلاد، والتي تأسست خلال فترة الصدمات النفطية في السبعينيات، وما زالت مملوكة للدولة بنسبة 50%.
وفي عام 2023م، زودت النيجر فرنسا بنحو 15% من احتياجاتها من اليورانيوم. وإلى أن يتم تطوير ما يسمى “مفاعلات النيوترون السريعة”، وهي أقل استهلاكًا للوقود، تظل الواردات من النيجر بالغة الأهمية. وقد تردد أن تأمين مناطق تعدين اليورانيوم في منطقة “الحدود الثلاثة” كان أحد الدوافع خلف “عملية برخان” السابقة، و”عملية سيرفال”، التي بدأت بعد عدد من عمليات الاختطاف في مجمع التعدين التابع لشركة “أريفا” في أرليت.
كما يعود تورط فرنسا مع الطوارق إلى وقتٍ لم تكن فيه رواسب اليورانيوم مُكتَشَفة بعدُ. وقد بدأ غزو الصحراء الكبرى في الإمبراطورية الثانية وتوسَّع في الجمهورية الثالثة، عندما اضطرت الدول الموقِّعة على التقسيم الإقليمي المتفق عليه في مؤتمر برلين إلى احتلال المناطق التي طالبت بها بالفعل من أجل التصديق على الاتفاقية. وكانت هذه الحاجة إلى السيطرة مصحوبة بانبهار بأسلوب حياة شعوب الصحراء.
لقد أذهل سحر البدو الغرائبي والقديم النُّخبة الفرنسية، وأشاعت الصحف المُضلِّلة بعض الشائعات مفادها: هل هؤلاء الأشخاص ذوو البشرة الفاتحة والعيون الملونة ربما من نسل الصليبيين الفرانكوفونيين؟ فضلاً عن فكرة أن الإسلام المعتدل المفترض الذي يعتنقه الطوارق ربما يكون بمثابة واجهة للمسيحية القديمة. وأشياء من هذا القبيل…
لقد كانت الإدارة الاستعمارية تنظر إلى الطوارق باعتبارهم مجموعة من القبائل، وقسَّمتهم إلى أربعة اتحادات جغرافية. وقد استغلت الصراعات القائمة بينهم. كما أدَّت إستراتيجية “القَبَلِيَّة” التي تطوَّرت في “المكاتب العربية” في الجزائر المُستعمرة إلى خلق المزيد من الجبهات الفرعية ومراكز صُنع القرار.
واستمر ذلك الوضع حتى فترة ما بعد الاستقلال. وتم تعيين زعماء متعاطفين مع المصالح الفرنسية، مثل مانو داياك، صاحب الشخصية الكاريزمية، الذي يُزعَم أن المخابرات الفرنسية استخدمته في عام 1993م لتقسيم الجبهة الانفصالية في النيجر. لقد وفَّر تسلل الحركات المتمردة الأمن للحكومات المحلية، وخلق فرصة أمام فرنسا للتدخل في سياساتها الداخلية. وفي بعض الأحيان كان هذا يعني إبعاد الفصائل المنشقة. وقد اختبأ مئات الطوارق -الذين أُعيد توطينهم ونقلهم من الجزائر هربًا من الجفاف والقمع- في النيجر في تسعينيات القرن العشرين. وهو الأمر الذي تجاهلته وسائل الإعلام الفرنسية بشدة.
يعود تنامي الشعور الوطني بين الطوارق، إلى حد كبير، إلى الحملات المناهضة للطوارق التي شنَّتها الأنظمة الجديدة بعد الاستقلال. فقد حلت رواية النُّخب السياسية التي تُصوِّر شعبًا مالكًا للعبيد محل الصورة الرومانسية لمحاربي الصحراء النبلاء التي هيمنت على السرديات الاستعمارية. وتتجلَّى هذه الصورة بقوة خاصة في النيجر ومالي؛ حيث تقدر وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أن ثلاثة أرباع الطوارق البالغ عددهم ثلاثة ملايين نسمة يعيشون هناك.
وفي سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، دفع الجفاف الشديد والمجاعة الشباب الرُّحَل من البدو إلى التشرد. وأثناء فرارهم شمالاً، تم احتجازهم في مخيمات في الجزائر وليبيا؛ حيث تعاملت السلطات العربية مع المزيج المتنوع من المجموعات المتباينة باعتباره كتلة متجانسة. وانضم العديد منهم، في النهاية، إلى الفيلق التابع للقذافي، وانتهى بهم الأمر، ليصبحوا وقودًا للمدَافع في ساحات المعارك في لبنان والعراق، أو في الحرب الليبية ضد تشاد وحلفائها الفرنسيين في قطاع أوزو. وذهب بعضهم إلى الجنوب مرة أخرى، وشاركوا في انتفاضات الطوارق في تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وهذه المرة، تمت هجرتهم بمساعدة سيارات تعمل بالديزل، والتي أحضرها العاملون في المجال الإنساني إلى الصحراء.
خلال هذه الفترة، لعب القذافي دورًا ثوريًّا في منطقة الساحل مماثلاً لدور مجموعة فاجنر اليوم. لقد تحدَّى المصالح الاقتصادية الفرنسية بتحويل ليبيا إلى مركز مستقل لتجارة السلع الأساسية، بمعزل عن الشركات الغربية الكبرى، وخاصة اليورانيوم، الذي زوَّد به باكستان والهند. وقبل وقت قصير من انهيار نظامه تحت قصف قنابل حلف شمال الأطلسي في عام 2011م، انتقل الجيل الأحدث من قبيلة إيشومار إلى الجنوب بأسلحتهم، بناء على نصيحة أجهزة الاستخبارات الفرنسية.
وفي مالي، تزامن انقلاب عام 2012م مع استئناف القتال بين “باماكو” و”حركة أزواد”. وانسحب جيش مالي غير النظامي من المدن الشمالية وعبر النيجر. لكنّ سيطرة الطوارق على مدينتي “غاو” و”كيدال” لم تدم طويلاً؛ إذ سرعان ما اكتسبت الجماعات المسلحة الأفضل تجهيزًا والمشتبه في تلقيها الدعم من الجزائر المزيد من الأراضي. وتم ذلك عندما أرسلت باريس قواتها أخيرًا.
وبدلاً من توطيد العلاقات مع الطوارق، ركَّزت أجهزة الأمن الجزائرية على الحركات المسلحة. وعلى غرار ما فعله القذافي؛ سعت الجزائر إلى تحدي الهيمنة الفرنسية في الصحراء. وبمساعدة تلك الحركات، أرادت الجزائر أن تثبت نفسها كمركز جديد للأمن الإقليمي. وخلال الحرب الأهلية الجزائرية، انتشرت شائعات مستمرة حول وجود اتصالات بين أجهزة المخابرات الجزائرية والجماعات المسلحة التي كان من المفترض أن تتصدى لها الجزائر. وعندما استولى الجيش الجزائري أخيرًا على الأراضي التي كانت تحت سيطرة هذه الجماعات في أواخر التسعينيات، انتقل بعض المسلحين إلى الجنوب. واختلطوا مع قبائل البربر المحلية، بما في ذلك الطوارق، وتبنوا أسلوب حياتهم، مُتبعين إستراتيجية الماوية الكلاسيكية(*).
وتوفّر منطقة الساحل بيئة خصبة للابتزاز والتهريب؛ في بادئ الأمر، كان يتم تهريب السجائر والوقود، والآن الأسلحة والكوكايين؛ إذ تم ضبط 13 كيلو جرام من الكوكايين في المنطقة سنويًّا بين عامي 2015 و2020م، وارتفعت هذه النسبة إلى 1466 كيلو جرام في عام 2022م.
في الأغلب، كان الجيل الأول من زعماء الجماعات المسلحة في منطقة الساحل جزائريين. ومن بين هؤلاء “مختار بلمختار”، ذلك الرجل الغامض، وهو من قدامى المحاربين في المعركة ضد السوفييت في أفغانستان، والذي أصبح شخصية بارزة في وادي ميزاب خلال “العقد الأسود” في تاريخ الجزائر. وقد مهَّدت الحملة الشهيرة التي شنَّها “فرانسوا هولاند” للقضاء على زعماء الجماعات المسلحة في منطقة الساحل، بما في ذلك بلمختار، الذي لقي حتفه في غارة جوية في جنوب ليبيا في عام 2016م، الطريق لجيل جديد. وترك “إياد أغ غالي”، وهو قيادي بارز وأحد قادة الطوارق السابقين، الحركة في عام 2012م، وأسس جماعة “أنصار الدين”.
وفي وقتٍ لاحق، تولى قيادة جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين”، وهي جماعة تابعة لتنظيم القاعدة وحَّدت الجماعات المقاتلة في المنطقة بدءًا من عام 2017م. ومنذ ذلك الحين، وسَّعت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين أنشطتها خارج مالي وأصبحت نشطة، بكثافة، في بلدان الساحل الأخرى، ولا سيما بوركينا فاسو، حيث أعلنت، مؤخرًا، مسؤوليتها عن هجوم في منطقة شمال وسط البلاد أسفر عن مقتل أكثر من 300 مدني.
وعلى الرغم من التوترات بين الطوارق والجماعات المسلحة، تعاونت هذه الجماعات، أحيانًا، في القتال ضد عدوهم المشترك، ألا وهي، حكومة مالي. وذكرت عدة مصادر أن مقاتلي جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، إلى جانب الحركة الوطنية لتحرير أزواد، شاركوا في هجوم 27 يوليو. وقد أدَّى هذا الخبر إلى تفاقم العداء بين الجزائر وباماكو؛ حيث اتهمت مالي الجزائر بإيواء المهاجمين. لكنّ ميثاق عدم الاعتداء كان بعيدًا كل البعد عن التحالف الكامل.
وبحسب مصادر تابعة للطوارق، نقلتها صحيفة لوموند، لم تكن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين حاضرة في معركة كيدال في نوفمبر 2023م.
إقرأ أيضا : ضغوط بريطانية لفرض “ضريبة خروج” وسط هجرة الأثرياء إلى الإمارات
وفي ظل الوضع الجديد، تجد فرنسا نفسها الآن معزولة؛ نتيجة لممارستها القديمة المتمثلة في التصرف المنفرد أحادي الجانب في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وفي حين موَّل الاتحاد الأوروبي البنية الأساسية لدعم عملية برخان، تحمَّلت باريس العبء الأكبر من العملية. ونشر الجيش الألماني ما يصل إلى ألف جندي في مالي، لكنَّه لم يشارك في العمليات القتالية على الرغم من المطالبات الفرنسية. وقد مكَّن هذا ألمانيا من الحفاظ على وجودها في منطقة الساحل بعد الانسحاب الرسمي لفرنسا.
كما تزداد حالة الاستياء من النفوذ الفرنسي في المنطقة، وهو ما تُغذيه الدعاية الروسية. فقد اتُّهمت مجموعة فاجنر بتنظيم احتجاجات خارج السفارات وإدارة حملات تضليل عبر الإنترنت؛ حيث ألقت باللوم مرة أخرى على عاتق شركة فرنسية بذريعة التسبب في نقص الوقود، ومرة أخرى زعمت وجود مقبرة جماعية في قاعدة سابقة تابعة لقوات عملية برخان بغرض التغطية على مذبحة نفذها جنودها المرتزقة.
وفي جمهورية إفريقيا الوسطى، عرضت السلطات فيلم “السائح” عام (2021م) في الاستاد الرئيسي في بانجى؛ وهو فيلم دعائي روسي بدائي يقود فيه مدربون ناطقون بالروسية قوات موالية لإفريقيا الوسطى ضد جماعة متمردة مدعومة من شخصية فرنسية مشبوهة. والواقع أن أداء هوليوود كان مذهلاً في ذات النهج الدعائي؛ حيث أظهر فيلم الخيال العلمي الضخم “النمر الأسود: واكاندا للأبد” في عام (2022م) جنودًا يرتدون زيًّا يشبه زي قوات عملية برخان ينهبون موارد مملكة واكاندا الخيالية، وهو ما أثار استياء وزير دفاع ماكرون “سيباستيان ليكورنو”.
أفريكوم(*) والبنتاجون:
لقد تسامحت الولايات المتحدة لفترة طويلة مع هيمنة القوة الاستعمارية السابقة على منطقة الساحل. فقد دعمت عملية برخان من خلال توفير نصف الموارد وتقديم قدرات جمع المعلومات الاستخباراتية القائمة على الأقمار الصناعية، مما يسمح لواشنطن بمراقبة المنطقة عن كثب. ويبدو أن التطورات الأخيرة تُشكّل انتكاسة لهذه الإستراتيجية مع تدهور الوضع الأمني وزيادة النفوذ الروسي.
ومع ذلك، سعت الولايات المتحدة أيضًا لفترة طويلة إلى وضع نفسها في إفريقيا كبديل لشريكتها الغربية فرنسا. وكان “مشروع آيزنستات” -الذي سُمِّي على اسم وكيل وزارة الخارجية في عهد كلينتون في وزارة التجارة- يهدف إلى إنشاء منطقة تجارة حرة في المغرب للتنافس مع مشروع السوق الأوروبية المتوسطية الذي أنشأته باريس.
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، حددت أجهزة الأمن الأمريكية منطقة الساحل ودولها الفاشلة كجبهة مهمة في “حربها العالمية على الإرهاب”؛ بحسب قول الكاتب والباحث جيريمي كينان. وفي عام 2002م، أطلقت واشنطن مبادرة عموم الساحل (بي إس آي)، وهي سلسلة من اتفاقيات التعاون العسكري مع مالي والنيجر وتشاد وموريتانيا، والتي تضمَّنت نشر مدربين أمريكيين لبناء قوات الأمن المحلية. ويبدو أن هذه المبادرة بدأت تُؤتي ثمارها؛ حيث تمكَّنت واشنطن من تجنُّب المواجهة المباشرة مع زعماء الانقلابات الأخيرة في النيجر ومالي، والذين شارك معظمهم في برامج تدريبية بقيادة القوات الخاصة الأمريكية.
ومع توقيع شراكة مكافحة الإرهاب عبر الصحراء في عام 2005م، وإنشاء القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) في عام 2008م؛ تم توسيع مهام التدريب لتشمل جميع البلدان المجاورة للصحراء. ويقال: إن الجزائر سمحت لواشنطن بإنشاء قاعدة سرية في تمنراست، على أطراف الصحراء، في مقابل زيادة هائلة في الاستثمار المباشر الأمريكي. كما تحافظ واشنطن على وجودها في النيجر من خلال قواعد الطائرات بدون طيار في نيامي وأغاديز. لقد كانت أفريكوم تجري رحلات مراقبة هناك، وتتبّع تحركات المقاتلين لدعم عمليات الاستخبارات في برخان. وقد انسحبت القوات الامريكية مؤخرًا من البلاد بعد فشلها في التوصل إلى اتفاق مع المجلس العسكري الحاكم، مما شرّع الانقلاب بحكم الأمر الواقع. وعلى الرغم من أهميته الرمزية، فمن غير المرجَّح أن يكون لهذا الانسحاب تأثير كبير على العمليات؛ حيث انتقلت أنشطة المراقبة بالفعل إلى قواعد حول خليج غينيا.
وهنا يجب النظر أيضًا إلى حصة أفريكوم الصغيرة نسبيًّا من ميزانية البنتاجون في إطار حصة أعلى بكثير من المقاولين المرتبطين بمسارح عسكرية أمريكية أخرى؛ إذ تشير الاتجاهات الحالية إلى أن هذا الاعتماد سوف يزداد. ففي يناير الماضي دعا رئيس اللجنة الفرعية لإفريقيا إلى المنافسة مع مجموعة فاجنر أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب. وتحديدًا، شدَّد على الحاجة إلى توسيع مجموعة الأدوات الأمريكية للتعامل مع الأزمات الأمنية في إفريقيا بما يتجاوز عمليات حفظ السلام التقليدية التابعة للأمم المتحدة.
لقد اكتشف المقاولون العسكريون الخاصون بالفعل السوق المربحة لـ”أمن النظام”؛ فمنذ العام الماضي، كانت شركة (بانكروفت جلوبال ديفيلوبمنت/Bancroft Global Development ) التي تتخذ من واشنطن مقرًّا لها تتفاوض مع حكومة إفريقيا الوسطى لتولّي مسؤولية تأمين مواقع التعدين بدلاً من فاجنر. وقال مسؤول من مكتب إفريقيا التابع لوزارة الخارجية في نفس الجلسة: “لقد لعب المقاولون الخاصون وما زالوا يلعبون دورًا مهمًّا في تقديم الدعم اللوجستي والتدريب والمعدات وبناء القدرات الأخرى”.
وإذا كانت مجموعة فاجنر تعمل على تعطيل باريس في منطقة الساحل؛ فيبدو أنها تهدف إلى العمل على الجبهة الأمنية، بينما بدأت شركات البناء والتعدين الصينية في العمل على الجبهة الاقتصادية منذ أواخر التسعينيات.
ومن خلال هذا المثال، تُعيد الدول اكتشاف نموذج الميليشيات الخاصة الكلاسيكي؛ وهو النموذج الذي كان قائمًا بالفعل في الجنوب العالمي منذ أزمة الديون السيادية في الثمانينيات، بحسب ما أوضح “جوشوا كريز” مؤخرًا في مقالته عن السودان. هذا النهج أكثر مرونة وأقل تكلفة، ويشكل تهديدًا أقل لسيادة الدولة المضيفة.
ولقد استخدمت فرنسا نفسها هذه الميليشيات أكثر من مرة، بدءًا بميليشياتها “أفرو” في الكونغو البلجيكية السابقة. ولكنّ الأحداث الأخيرة في تينزاوتين تشير إلى أن الشركات العسكرية الخاصة والميليشيات ليست الحل الجذري، وإن فرنسا أيضًا بحاجة إلى النضال من أجل تأكيد مصالحها في المنطقة في أعقاب فشل بعثات الاستقرار الفرنسية.