في ظل توتُّر إقليمي مستمر، وتحديات مشتركة تُواجه دول القرن الإفريقي، جاء الاتفاق الأخير بين الصومال وإثيوبيا -برعاية تركيا- علامة فارقة تحمل وُعودًا بتحقيق الاستقرار والتنمية.
تناول الاتفاق مجموعة من القضايا المحورية، مثل التعاون التجاري عبر الموانئ، وتبادل المعلومات الأمنية، ومواجهة أزمات اللاجئين، فضلاً عن تعزيز الشراكات الاقتصادية والعسكرية.
فإثيوبيا ترى في هذا الاتفاق فرصة ذهبية لتحسين موقعها الاقتصادي، بالاستفادة من الموانئ الصومالية، بينما تسعى مقديشو إلى تعزيز سيادتها وتحقيق مكاسب تنموية دون التفريط في مصالحها الإستراتيجية.
من جانب آخر، تسعى الصومال إلى التوازن في علاقاتها بين إثيوبيا ومصر، وسط تساؤلات حول تأثير هذا التحالف على ديناميكيات الإقليم.
تركيا، بدورها، تُواصل إثبات دورها كلاعب دولي فعَّال؛ حيث جمعت بين أدوات الوساطة والتنمية لتعزيز وجودها في المنطقة، مستندةً إلى مشاريع مستدامة واستثمارات ضخمة.
يقدم هذا المقال تحليلًا شاملًا لأبعاد هذا الاتفاق وتأثيراته الإستراتيجية، من خلال استعراض مكاسب الأطراف المختلفة، والمواقف السياسية، وأبرز الدروس المستخلصة من الدور التركي في القرن الإفريقي، سواء في التوصل لهذا الاتفاق، أو غير ذلك.
أهمية الاتفاق ومكاسبه لإثيوبيا:
يُمثّل الاتفاق بين الصومال وإثيوبيا برعاية تركيا إنجازًا دبلوماسيًّا يُعزِّز مصالح إثيوبيا في المنطقة. بالنسبة لإثيوبيا، يُعتبر الوصول إلى الموانئ الصومالية مكسبًا إستراتيجيًّا وتجاريًّا؛ كونه يتيح لها تسهيل التصدير والاستيراد باعتبارها دولة غير ساحلية. إلى جانب ذلك، يُوفِّر الاتفاق ضمانًا لاستقرار حدودها مع الصومال، مما يقلل من التهديدات الأمنية التي تواجهها، خاصةً في المناطق المتنازع عليها أو تلك التي تنشط فيها الجماعات المسلحة.
كذلك تعود المكاسب الإستراتيجية لهذا الاتفاق لإثيوبيا إلى توفير حلول بنيوية تُعزّز تجارتها الإقليمية. ويقدر البنك الدولي أن إثيوبيا تخسر حوالي 2 مليار دولار سنويًّا بسبب تكاليف النقل المرتفعة الناتجة عن كونها دولة غير ساحلية. ومن خلال التعاون مع الصومال لتحسين الوصول إلى الموانئ، يمكن تقليص هذه الخسائر بشكل ملحوظ، وزيادة تدفق التجارة الدولية عبر موانئ مثل مقديشو وبوساسو. علاوة على ذلك، يمكن للاتفاق أن يُسهم في تعزيز التعاون المائي والزراعي، خاصةً أن البلدين يعتمدان على المياه العابرة للحدود في الري والإنتاج الزراعي، وهو أمر حيوي لضمان الأمن الغذائي في المنطقة.
موقف مقديشو من منح إثيوبيا حقّ استخدام الموانئ لأغراض عسكرية:
على الرغم من تطور العلاقات الثنائية؛ تحافظ الصومال على موقفٍ حَذِر فيما يتعلق بإضفاء صبغة عسكرية على التعاون. التقارير الأخيرة تشير إلى أن إثيوبيا تطمح لاستخدام بعض الموانئ مثل ميناء بربرة، لكنَّ الحكومة الصومالية ملتزمة بالشفافية الدولية واللوائح التي تحظر تخصيص أي موانئ لأغراض عسكرية لدولة أخرى.
إحصائيًّا، تُسهم الموانئ الصومالية بما يزيد عن 40% من عائدات الدولة، لذا فإن تحويل هذه المرافق نحو الأغراض العسكرية قد يؤثر على حركة التجارة والنشاط المدني المرتبط بها.
ورغم أن الاتفاق ركَّز أساسًا على التعاون الاقتصادي والتجاري، يبقى موضوع الاستخدام العسكري للموانئ حساسًا بالنسبة للصومال. وتظهر مقديشو حذرًا تجاه تقديم امتيازات عسكرية لأديس أبابا؛ إذ ترى أن ذلك قد يُشكِّل انتهاكًا لسيادتها. ورغم تقارير متضاربة حول نوايا إثيوبيا في هذا المجال، لم يُعلن رسميًّا عن موافقة على أيّ وجود عسكري إثيوبي على الأراضي أو الموانئ الصومالية.
أسباب تراجع الصومال عن لغة التصعيد مع إثيوبيا:
التراجع الصومالي جاء نتيجة لدبلوماسية تركية مُكثَّفة، إضافةً إلى تغييرات في الحسابات السياسية الصومالية. ترى الحكومة الصومالية أن تحسين العلاقات مع إثيوبيا يخدم مصالحها في مواجهة التحديات المشتركة مثل الإرهاب. كما أن التهدئة تُعزِّز فُرَص الاستقرار المحلي، وتفتح أبواب التعاون الاقتصادي الذي تحتاجه البلاد بشدة.
كما يرجع التراجع الصومالي إلى مزيج من الضغوط الاقتصادية والحاجة إلى استقرار إقليمي. وتُظهر بيانات البنك المركزي الصومالي أن 70% من إيرادات الصومال تعتمد على التعاون الإقليمي، بما في ذلك تجارة الماشية التي تُصدَّر بكميات كبيرة إلى إثيوبيا والدول المجاورة. كما أسهمت الأزمات الإنسانية مثل الجفاف في تعزيز الحوار؛ حيث تشير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 8 ملايين شخص في الصومال يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، وهو وضع يتطلب شراكة إقليمية قوية لتجاوز التحديات.
أثر المصالحة على التعاون العسكري مع مصر:
المصالحة بين الصومال وإثيوبيا لا تُعدّ بالضرورة على حساب العلاقات الصومالية-المصرية. ويواصل الصومال نهجًا براغماتيًّا يحافظ على علاقات جيدة مع جميع الأطراف، بما في ذلك مصر، التي تُعدّ شريكًا أمنيًّا مهمًّا. وبالتالي، فإن تحسين العلاقات مع إثيوبيا قد يُظهر توازنًا دبلوماسيًّا أكثر منه تنازلاً لأيِّ جهة على حساب أخرى.
فرغم تعميق العلاقات بين الصومال وإثيوبيا، تظل العلاقة مع مصر ذات أهمية إستراتيجية، خاصةً في ظل الجوانب العسكرية التي تشمل برامج التدريب وصفقات الأسلحة. ومع ذلك، يبدو أن الصومال يسعى للحفاظ على نهج محايد، مستفيدًا من إثيوبيا لتقوية اقتصاده من جهة، ومصر كحليف عسكري محتمل من جهة أخرى. إحصائيًّا، تمثل المساعدات العسكرية لمصر أقل من 10% من ميزانية الدفاع الصومالي، مما يعني أن التعاون مع إثيوبيا لن يؤثر جوهريًّا على الشراكة الصومالية-المصرية.
الدور التركي وأبرز ملامحه:
تتميز الوساطة التركية بأنها بعيدة عن التصعيد العسكري، وتميل إلى الاستثمارات طويلة الأمد والتكامل الإقليمي. كما تلعب تركيا دورًا بارزًا في تطوير البنية التحتية الصومالية، من بناء المدارس والمستشفيات إلى دعم الجيش الصومالي تدريبيًّا ولوجستيًّا. في سياق هذا الاتفاق، أثبتت أنقرة أنها قادرة على جمع الأطراف المتنازعة وإيجاد أرضية مشتركة تخدم الاستقرار الإقليمي، مما يعزز حضورها كوسيط موثوق في القرن الإفريقي.
وكذلك تشير الإحصاءات إلى أن تركيا استثمرت ما يزيد عن مليار دولار في مشاريع إعادة الإعمار الصومالية منذ 2011م. كما قامت بإنشاء قاعدة تدريب عسكرية في مقديشو تُعدّ هي الأكبر خارج أراضيها، تسع لتدريب حوالي 5000 جندي سنويًّا. إلى جانب ذلك، ساهمت تركيا في إنشاء مشروعات بنى تحتية حيوية تشمل الطرق، والمستشفيات، والمدارس، ما رفع مستوى الناتج المحلي الإجمالي الصومالي بنسبة 2% سنويًّا. والآن دورها كوسيط يعكس مكانتها كقوة إقليمية تُحْسِن استغلال أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية لتحقيق استقرار طويل الأمد في المنطقة.
خاتمة:
يُمثّل الاتفاق بين الصومال وإثيوبيا برعاية تركية خطوة جريئة نحو تعزيز الأمن الإقليمي والتعاون الاقتصادي بين دولتين لطالما شابهما توتُّر تاريخي؛ إلا أن المستقبل يحمل في طياته تساؤلات مهمة حول قدرة الطرفين على الالتزام بتنفيذ بنود الاتفاق في مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية المعقدة.
هل ستتمكن إثيوبيا من تحقيق مكاسب طويلة الأمد عبر الموانئ الصومالية دون إثارة مخاوف السيادة لدى مقديشو؟ وكيف ستتوازن الصومال في علاقاتها الإقليمية، خاصة مع مصر وإثيوبيا؟ وهل ستواصل تركيا لعب دور الضامن في هذا الاتفاق مع وجود أطراف دولية أخرى قد ترغب في التأثير على معادلة القرن الإفريقي؟
هذه الأسئلة وغيرها تُلْقِي بظلالها على مسار الاتفاق المستقبلي، وتجعل من الاتفاق نموذجًا حيًّا لاختبار التعاون الإقليمي في واحدة من أكثر المناطق تعقيدًا في العالم. ورغم التحديات، يبدو أن الأطراف الفاعلة تمتلك فرصة حقيقية لتحويل هذا الاتفاق إلى أساس لاستقرار طويل الأمد، إذا ما تم دعمه الكامل للحقوق الوطنية والمشروعة.