في خضم الجهود المبذولة لتحقيق السلام والاستقرار في سوريا، تبرز قضية المحاسبة عن الجرائم التي ارتُكبت بحق الشعب السوري، كخطوة لا غنى عنها لبناء مستقبل قائم على العدالة والمساواة.
إذ إنّ تجاوز هذه الجرائم دون محاسبة جادة سيؤدي إلى ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب، ما يهدد أي فرصة للمصالحة الحقيقية. ولعل تجارب التاريخ، مثل الثورة الفرنسية وقوانين تجريم النازية في ألمانيا، تقدم دروسًا هامة في ضرورة محاسبة المجرمين لضمان عدم تكرار الماضي الأليم.
لماذا المحاسبة ضرورية؟
المحاسبة ليست مجرد مطلب أخلاقي، بل هي شرط أساسي لتحقيق العدالة وبناء الثقة بين مكونات الشعب السوري، من خلال:
إنهاء ثقافة الإفلات من العقاب: على مدار سنوات الصراع، ارتُكبت انتهاكات جسيمة ضد الشعب السوري، بما في ذلك المجازر الجماعية، والتعذيب، والتهجير القسري.
وعدم محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم سيشجع على تكرارها في المستقبل، وسيُضعف من مصداقية أي حكومة تسعى لإعادة بناء البلاد.
ضمان حقوق الضحايا: الضحايا وعائلاتهم لديهم الحق في معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة.. المحاسبة تضمن الاعتراف بمعاناتهم، وتعزز من شعورهم بالكرامة.
تحقيق المصالحة الوطنية: لا يمكن للمجتمع أن يتصالح مع ذاته إذا استمرت الجروح مفتوحة، والمصالحة الحقيقية تستدعي محاسبة المذنبين قبل التفكير في أي شكل من أشكال العفو أو المسامحة.
تجارب تاريخية ملهمة
التاريخ مليء بالدروس التي تؤكد أهمية المحاسبة، كشرط أساسي لبناء دول مستقرة:
الثورة الفرنسية والمشانق التي أُقيمت للمجرمين: خلال الثورة الفرنسية، لم يكن بالإمكان التقدم نحو نظام جمهوري عادل دون محاسبة رموز النظام الملكي الذين تسببوا في معاناة الشعب.
المشانق التي أُقيمت لمحاسبة المجرمين كانت رسالة واضحة بأن العدالة ستطول كل من خان الأمانة.
- ألمانيا وقانون معاداة النازية: بعد الحرب العالمية الثانية، أصدرت ألمانيا قوانين صارمة تُجرّم أي محاولة لتمجيد النازية أو تبرير جرائمها. هذه القوانين كانت خطوة حاسمة لضمان عدم تكرار الفظائع التي ارتكبها النظام النازي، ولتعزيز قيم الديمقراطية والإنسانية في المجتمع الألماني.
- سوريا بحاجة إلى قوانين رادعة
إذا أرادت سوريا أن تتعافى من مآسيها، فإنها بحاجة إلى منظومة قانونية صارمة، تضمن تحقيق العدالة ومنع تمجيد المجرمين، وتشمل:
- قانون تجريم تمجيد النظام السابق: يجب أن يُسن قانون مشابه لقانون معاداة النازية في ألمانيا، يُجرّم أي محاولة لتمجيد النظام الذي تسبب في معاناة الشعب السوري. هذا القانون يجب أن يكون واضحًا وصارمًا، مع فرض عقوبات جنائية على المخالفين.
- محاكم خاصة بالجرائم ضد الإنسانية: إنشاء محاكم مستقلة لمحاكمة كل من تورط في جرائم ضد الشعب السوري، سواء كانوا قادة سياسيين أو عسكريين أو حتى متعاونين محليين. هذه المحاكم يجب أن تلتزم بالمعايير الدولية لضمان العدالة والنزاهة.
- آليات لحماية العدالة الانتقالية: تطبيق العدالة الانتقالية بشكل يضمن حقوق الضحايا وفي الوقت ذاته يعزز من وحدة المجتمع، ويمكن أن تشمل هذه الآليات لجانًا للتحقيق في الجرائم، وبرامج لتعويض الضحايا، وجهودًا لتوثيق الانتهاكات.
إقرأ أيضا : معنى المعارضة في سورية الجديدة
تحديات المحاسبة وآفاقها
بالطبع، لن تكون عملية المحاسبة سهلة في ظل تعقيد المشهد السوري؛ وبين التحديات والآفاق هناك:
العوائق السياسية:
- استمرار التدخلات الدولية وتباين المصالح الإقليمية يجعل من الصعب تحقيق إجماع على آليات المحاسبة.
- بعض الدول الداعمة للنظام قد تعرقل جهود محاكمته لضمان استمرار نفوذها.
الانقسام الداخلي:
الانقسامات بين مكونات الشعب السوري قد تعيق التوافق على رؤية مشتركة للعدالة والمحاسبة.
الأمل في إرادة دولية:
- يمكن للمجتمع الدولي أن يأخذ دورًا مهمًا من خلال تقديم الدعم القانوني والمادي لإنشاء محاكم خاصة.
- دعم مبادرات توثيق الجرائم وجمع الأدلة سيكون حجر الأساس لأي عملية محاسبة مستقبلية.
عدالة بلا مساومة
المسامحة قد تكون خيارًا مستقبليًا لبعض القضايا، لكنها لا يمكن أن تكون بديلًا عن المحاسبة.. العدالة يجب أن تطول كل من أجرم بحق الشعب السوري، لتكون رسالة واضحة أن سوريا الجديدة لن تحتمل الظلم أو الفساد.
التجارب التاريخية علمتنا أن تجاهل العدالة يعني استدامة الألم والمعاناة؛ لذا فإن بناء مستقبل سوريا يبدأ بتحقيق العدالة الشاملة، مهما كانت التحديات، لأن المحاسبة ليست مجرد حق للضحايا، بل هي ركيزة أساسية لبناء وطن يستحقه السوريون.