تناقضات يصعب فهمها تلك المتعلقة بمسار الحل السياسي في سوريا، إذّ أنّ كل الأطراف الفاعلة والمؤثرة في سوريا تتحدث عن ضرورة التوصل إلى حل سياسي يُنهي سنوات الأزمة السورية، لكن دون تحديد معالم هذا الحل. وفي ذات التوقيت فإن الفاعلين والمؤثرين في الملف السوري.
يتحدثون ويدعوا إلى ضرورة الحفاظ على الجغرافية السورية ومنع تقسيمها. لكن الدعوات السابقة ومحاولة الوصول إلى حل سياسي في سوريا، يصطدم بجملة واسعة من التناقضات والتعقيدات، وهذا الأمر، يعكس حالة الاستعصاء الحاصلة في مسار العملية السياسية في سوريا، والتي تقودها القوى الإقليمية والدولية وإشراف الأمم المتحدة. لكن في عمق هذا المشهد فإن الوقائع تؤكد عدم نضوج الظروف للوصول إلى حل سياسي للأزمة.
يبدو جليًا أنّ كل الأطراف الفاعلة تنتظر معرفة توجُّهات الإدارة الأميركية القادمة تُجاه سوريا، وبذات الإطار فإن أغلب الفاعلين يحاولون التمسُّك بمكتسباتهم.
وبات من الواضح أنّ المقاربات القديمة للحل قد استُنفِدت ولم تعد صالحة. في جانب موازٍ، وبذات إطار البحث عن حلول سياسية، فإن مسار عمل اللجنة الدستورية بات شائكًا، الأمر الذي عبَّر عنه المبعوث الأممي غير بيدرسون عن عدم إمكانية الاستمرار بعمل اللجنة الدستورية وفق الطريقة التي تدار بها الآن، وهذا ما يفتح الباب أمام جملة من الاحتمالات: الأول البحث عن بدائل جديدة من منطلق أن اللجنة الدستورية قد استنفدت إمكانية الوصول إلى حل للأزمة السورية؛ والثاني، إعادة النظر في طبيعة الحل السوري لاسيما أن الجغرافية السورية تشهد تجاذبات بإيقاعات إقليمية ودولية يصعب التعامل معها ضمن الوقائع الحالية؛ والثالث، أن الأطراف السورية تعتمد استراتيجيات تترجم رغبة الداعمين، سواء الدولة السورية أو معارضيها. وبين هذا وذاك فإن المشهد السوري وإن بدت القوى الدولية أنها ترغب في التوصل إلى حل، لكنها رغبات تحددها أطر المصالح، وبهذه المصالح والرغبات فإن الملف السوري يبقى في حلقة مفرغة، يصعب الخروج منها في ظل مشهد تحكمه بصرامة جملة من السيناريوهات والسيناريوهات المضادة للوصول إلى أفضل حل سياسي ممكن.
بهذا المعنى فإن هناك الكثير من التساؤلات التي تقض مضاجع السوريين. أسئلة تتراوح بين آليات عمل هذه اللجنة، وصلاحياتها، والتوافقات الإقليمية والدولية لتسيير برنامج عملها، وطبيعة المُخرجات التي ستنتج بعد جولات طويلة من المباحثات. فضلاً عن تساؤل جوهري يدخل في صُلب عمل هذه اللجنة، ألا وهو القدرة الأميركية على إحداث شرخ قد يُصيب في هذه اللجنة مقتلاً. خاصة أن واشنطن متمسكة برؤيتها للحل السياسي في سوريا، وتعارض إعادة التطبيع مع دمشق، إذ لا رفع للعقوبات ولا إعادة إعمار دون حل سياسي، وهذا ما يؤكد بأن الولايات المتحدة لا تزال تملك ألغاماً سياسية ستؤثر بلا ريب في صيرورة الحل السياسي في سوريا.
رغم ذلك، تبقى هناك الكثير من الاشكاليات حول آليات عمل هذه اللجنة، والسؤال الأهم على الرغم من التوافقات الروسية التركية الإيرانية، هو كيف يمكن أن تكون اللجنة الدستورية محطة سياسية هامة في إنجاح المساعي للتوصل إلى حلول سياسية تُنهي الأزمة في سوريا؟ وهل ستكون هذه الخطوة شكلية بُغية كسب المزيد من الوقت لإطالة أمد التجاذبات السياسية المانعة للتوصل إلى حل؟ بطبيعة الحال لا يمكن التعويل مبدئياً على نتائج اللجنة الدستورية، لجهة التأسيس لحل توافقي سوري- سوري، لأن منطق الوقائع يؤكد أن التطورات ذاهبة إلى الكثير من اللقاءات والاستشارات، وهذا يُفرغ المضمون من أهدافه، فضلاً عن التجاذبات الإقليمية وحالة الاستقطاب السياسي التي تعمل واشنطن على بلورتها بما يتعلق بعمل هذه اللجنة، وآلية اتخاذ قراراتها. وهذا يقودنا إلى نتيجة واضحة مُفادها، أن حالات التوافق السياسي شيء، وتطبيق المخرجات المتفق عليها شيء أخر مرتبط بطبيعة الظروف والوقائع الاقليمية والدولية.
على الرغم من محاولة المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون، إحداث خرقٍ على مستوى اللجنة الدستورية السورية المتوقفة اجتماعاتها منذ أشهر، على الأقل لجهة تحديد مكان انعقاد الجولة المقبلة، بعد إصرار روسيا على عدم الذهاب إلى جنيف لاستكمال أعمال اللجنة، إلا أن جهوده لا تزال تراوح مكانها دون إحداث نتائج على أرض الواقع، خاصة أن هناك مطالبات للمبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون، حيال ضرورة تقديم تقرير متكامل إلى مجلس الأمن عن أعمال اللجنة الدستورية منذ تأسيسها وإلى الآن، وتحديد المعوقات التي تواجهها، وإلزام اللجنة بتنفيذ اقتراحات المبعوث الخاص التي قدّمها لمنهجية نقاش مجدية تُحقق تقدمًا مستمرًا وملموسًا في أعمالها، إلى جانب ضرورة إلزام الأطراف كافة بجدول زمني لانعقاد اجتماعات اللجنة بشكل دوري منتظم في جنيف. والأهم أن هناك مطالبات لجهة العودة إلى مجلس الأمن وتطبيق القرار 2254، لاسيما في حال استمرار النهج المعطّل لأي حلّ سياسي في سوريا.
المطالبات السابقة قد تكون غايتها تحريك مياه الحل السياسي التي ركدت في جولات اللجنة الدستورية، عطفاً على رفض روسيا انعقاد الجولة الجديدة في جنيف. صحيح أن الخلافات المتصاعدة بين روسيا والغرب عقب الحرب على أوكرانيا، قد تمثل فرصة جيدة لبعض الدول الغربية لإعادة حساباتها في سوريا، ولكن على ما يبدو أن سياسة فصل الملفات، وتجميد الوضع السوري هي الثابت الوحيد لدى مختلف الفواعل الدولية، بما يتطلبه ذلك من مسايرة للرؤية الروسية في سوريا بحكم ثقلها العسكري والسياسي في هذا الملف، ولعل ما تم مؤخراً من رضوخ الغرب لطلبات روسيا في قرار تمديد إدخال المساعدات الإنسانية عبر الحدود، يعطينا مثالاً واضحاً على ذلك.
على ما يبدو لا تغيير في سياسات الدول الغربية تُجاه مسار الحل السياسي السوري حتى الآن، والتي في مجملها تساير الرؤية الروسية، بما يعنيه ذلك، من أن تحقيق شروط لتسوية سياسية عادلة في الملف السوري، من قبيل تماثل أوضاع أطراف النزاع، والتدخل الخارجي لصالح مُعارضي دمشق، الذي يمكن أن يكافئ التدخل الروسي لصالح دعم دمشق أقله سياسياً، وتمتع الأمم المتحدة بمكانة الطرف الثالث الضامن، ما تزال بعيدة عن الواقع. الواقع الذي تشير معطياته إلى استمرار المأساة السورية وفق قواعد الجمود التي أرستها تقاطعات الدول الفاعلة.