الكسكسي ليس مجرد طعام… قصة هوية متجذرة في القارة الإفريقية
وحّدت جبال الأطلس الشمالَ الإفريقي جغرافياً، فيما شكّل الأمازيغ الوحدة الجنسية للبلاد، كونهم سكانها الأصليين منذ ما قبل التاريخ. وما زالت الكثير من مظاهر حياتهم متوارثةً إلى يومنا هذا.
بحسب شارل جوليان، مؤلف كتاب “تاريخ شمال إفريقيا”، لم تُعرف تلك البلاد باسمٍ ثابت. في البداية أطلق اليونانيون عليها اسم “ليبيا” نسبةً إلى الليبيين القاطنين بين خليج سيرتا والنيل، وهو الاسم الذي حافظ عليه القرطاجيون والعبرانيون، بينما عمّم الرومان تسمية “الموريون”. وقبيل الاحتلال الروماني للمنطقة، أطلق السكان على أنفسهم “الأمازيغ”، والتي تعني الرجال النبلاء الأحرار. إلا أن التسمية الأشهر هي “البربر”، والتي كان يطلقها اليونانيون على الأجانب، واستمروا في ذلك، إلا أنهم عنوا بها الجاهل الذي لا يعرف من الحضارة شيئاً.
استمر العرب في التسمية أي “البربر” إلى جانب “المغرب الأقصى”، ثم جلبت القرون الوسطى والحديثة تسميتها الجديدة، حيث أطلق الجغرافيون اسم إفريقيا الصغرى، أو الشمال الإفريقي، أو القارة الإفريقية الفرنسية كمدلول سياسي.
“الكسكسي” يجمعهم أيضاً
يُعدّ “الكسكس” أو “الكسكسي” قاسماً مشتركاً وحّد الأمازيغ، الذين، بحسب جوليان، فقد حافظوا على الكثير من مظاهر حياتهم التي ضربت جذورها منذ نشأتهم: “كانوا قنوعين ونباتيين، وكان الفلاحون يأكلون الكسكسي منذ ذلك العهد، ومربو المواشي قليلاً ما كانوا يذبحون حيواناتهم، بل كانوا يكتفون بلبن الماعز، وكانوا يؤثرون الصيد والحلزون والعسل، ولا يشربون إلا الماء”.
وبالرغم من أن الكسكس ظهر في وصفات عدة في كتب طعام عربية بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر، إلا أن مؤرخي الطعام اعتقدوا بأنه ظهر في المغرب الأقصى بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر.
كما عُثر على “الكسكاس”، الآنية التي يُطهى بها هذا الطبق، في مقابر تعود إلى النوميديين، ونشأت مملكتهم في المغرب في القرن الثاني قبل الميلاد، حيث وحّد ملكها مسينسا القبائلَ تحت لوائه.
وجاء ابن دريد على تفسير كلمة “كسكس” في كتابه “جمهرة اللغة”، فقال: “كسكست الخبزة إذا كسرتها، والكسيس لحم يُجفف ثم يُدق كالسويق، فيتزود به في الأسفار”.
الأمر نفسه أورده كتاب “الطبخ والطبيخ في العهد المريني”، حيث أكّد على معنى الضرب الشديد، وبأن الطبق انتقل من المغاربة إلى بلاد الأندلس، كما جاءت في الكتاب طريقة تحضيره وطهيه نقلاً عن ابن رزين التحتي: “بعد نضج اللحم والخضر، نأخذ قدراً مخصصةً للكسكس ويوضع فيها الدقيق المفتول، وتكون علامة نضجه كثرة البخار”.
أسماء وأوانٍ
تعدّى الكسكس كونه صنفاً من الطعام، فأصبح ثقافةً يعتزّ بها شعبٌ بأكمله، فالكسكس اليوم هوية مغربية، قد يسحبها قطرٌ من ذراعها لتنعم تحت لوائه، إلا أنها موجودة قبل أن يُرسم لكل قطرٍ عَلمه، وإن كانت جدلية “حلاوة الجبن” حمويةً أم حمصيةً صعبة الحسم، فمن المستحيل أن نحسم بأن الكسكس جزائري أم مغربي أم تونسي، إلّا أن “الكسكاس” واحد، وهو الإناء المخصص لطبخ هذا الطبق، وكان يُصنع من مواد مختلفة كالخشب والخيزران وحتى من الفخار، إلا أنه كان نحاسي الصنع في مطابخ الذوات، وهو عبارة عن إناء مثقوب توضع فيه حبات الكسكس ثم يرتكز على آخر تحته يُدعى المقفول ويحوي على المرق أو الماء الساخن لتتم عمليه الطهي كاملةً على البخار.
وتكون “البُرمة” أو المقفول مطابقةً بالقياس مع قعر الكسكاس من حيث فوهتها.
أما اللطامة فهي شريط قماشي يُلفّ بين الكسكاس والمقفول لحجز البخار.
ويُلفظ الكسكس نفسه بلهجات عدة قد تختلف في البلد الواحد، فهو في الجزائر: “سكسو” أو “كسكسي”، وفي جنوبها “البربوشة”، ويسمى “الطعام” في الشرق الجزائري والمغرب، و”الكسكسي” في تونس.
تواريخ وعادات
لكلّ مناسبةٍ كسكسها الخاص بها، ففي ليلة منتصف رمضان، يوحّد الكسكس موائد الإفطار التونسية، ويتشارك التونسيون من خلاله الصدقة والدعاء للأموات. بينما يُطهى الكسكس بالقديد (اللحم المجفف) في رأس السنة الهجرية، وتراهم يقدّمون كسكس البُرزقان في أعراسهم ومع بداية الربيع في مواسم الحصاد، حيث ورثوا العادة من أجدادهم النومنديين الذين قدّموا الطبق للفلاحين احتفالاً بالموسم كما يُشاع في تونس.
البُرزقان يقدَّم أيضاً في أول أيام العيد، وهو طبق يجمع الطعم الحلو والمالح من خلال إضافة الحليب والعسل إلى اللحم والبصل المكرمل الذي يزيّن الكسكس. وما زالت النساء التونسيات يحافظن على عادات الجدّات، ويردّدن في كل مرة: “كي العادة والعوايد، والله لا يقطع لنا عادة”.
قد يكون الكسكس من الذرة أو القمح أو الشعير، رقيق الحبيبات، مُنتخباً للصنف الحلو بصحبة الفواكه المجففة والحليب، أو خشناً مع السمك ولحم الضأن والدجاج. يُعدّ الكسكس باللبن (الحليب)، طبقاً تشتهر به مصر، بينما تقدّم موريتانيا الكسكس بالتشطار (اللحم المجفف).
حبّات الكسكس من ألفها إلى يائها
كانت لرصيف22 وقفة مع المغربية فاطمة التي تعمل مرشدةً اجتماعيةً في ألمانيا للتعرف على مراحل تحضير الكسكس: “لدي ذكريات مع جدتي وأمي في برم الكسكس، وهي عملية قد تبدو بسيطةً، إلا أنها دقيقة، لذا اعتمدت النسوة حالياً على الكسكس الجاهز”.
وتضيف السيدة الخمسينية أنه قديماً كانت النسوة يجتمعن في فناء المنزل صيفاً يبرمن حبات الكسكس لتجهيز مؤونة الشتاء، أو “العولة” كما تُسمى في تونس: “تجهّز ربة المنزل الضيافة من حلويات مغربية وشاي، ويتم رفع صوت الراديو ليجلب معه أغاني مغربيةً تدندن معها النسوة وهنّ يعملن، وكان هذا التجمع أشبه باحتفال شعبي يضفي البهجة والسرور في عزّ حرارة الصيف”.
أما عن آلية العمل، فتبدأ النسوة بوضع السميد ضمن قصعات خشبية ويقمن برشّه بالماء المملح بالتناوب مع الدقيق وبخفة متناهية يحرّكنه بأطراف أصابعهن ثم براحة اليد لتتكور حبات الكسكس الصغيرة، وبعد غربلته وتكرار العملية، يتمّ تفويره أي تعريضه لبخار الماء، وتتكرر عملية التفوير مرتين، يُنشر بعدها على مفارش قطنية لتُجففه الشمس، ويُحفظ في الجرار الفخارية مع أعواد القرفة والقرنفل التي تضمن له طعمه المميز إلى حين يدقّ الشتاء الأبواب، بحسب السيدة فاطمة.
أما طهي الكسكس، فتوضح فاطمة أنه يتم بتفويره للمرة الثالثة بعد دعكه بالسمن أو زيت الزيتون، فينضج بالكسكاس، وحين يتصاعد البخار من حباته، تكون تلك علامة تمام نضجه.
أنواع الكسكس المغربي حصرتَها فاطمة بنوعَين؛ أولهما بلحم الحمل والخضروات المتنوعة كالبطاطا والقرع (اليقطين) والجزر والكوسا، برفقة البقوليات من حمص أو فول، وثانيهما يضاف إليه الزبيب والبصل المكرمل ليعطي شيئاً من الطعم الحلو.
يُسقى الكسكس عند التقديم بمرق سلق الخضروات واللحم والقليل من الطماطم، ويُقدَّم عادةً مع العيران “مخفوق الزبادي”، وهناك من يفضّل المزيد من المرق في أثناء الأكل.
وهكذا تكون وجبة الكسكس وجبةً متكاملةً غذائياً، ضمّت مقومات الغذاء كلها، تجتمع حول قصعته العائلة يوم الجمعة، كما يكون الوجبة المعتمدة في الأفراح والأتراح.
مفتول مشرقي
المفتول الذي يصنفه البعض كسكساً خشناً معتمدين في ذلك على أن أساسه القمح أيضاً، هو عبارة عن برغل بُثّ بماء، ثم فُتل بالدقيق فكان مفتولاً في فلسطين والأردن، ومغربيةً في حلب وحوران ولبنان. ويُطهى كما الكسكس ووفق الخطوات نفسها، ويقدَّم بجانبه المرق، وهو مرق طُهي فيه اللحم مع أكواز البصل والحمص، ويكون المرق أبيض في لبنان بينما يكتسب حمرته من ربّ الطماطم في فلسطين.
يبقى الكسكس طبقاً أساسياً في موطنه، وضيفاً يدقّ الأبواب العالمية بخفر، وهناك من استقبله بحفاوة، ومنهم من لا يزال يعرفه اسماً فحسب، ويجهل مكوناته ويظنّه نوعاً من الحبوب اسمها كسكس، لا تُزرع إلا في المغرب الكبير!