بالأمس كانت تغريدات رموز «الجهاديين» المؤثرين ومنهم تصريحات «أبو محمد الجولاني» أحمد الشرع، تؤكد أن أكبر التحديات التي ستواجه «هيئة تحرير الشام» والفصائل التابعة لها، هو «فلول» الكتلة الصلبة من المقاتلين الأجانب والسوريين ممن لم يستوعبوا ما حدث، وهذا متفهم جداً لأنه من الصعب في الثقافة «الجهادوية» الانتقال من مربع العقيدة إلى الغنيمة بهذه المرونة التي كشفت عن براغماتية عالية ليست وليدة اليوم وإنما لازمت «هيئة تحرير الشام» منذ قطيعتها المتكررة مع كل الفصائل، محلية أو عابرة للحدود، متوحشة كـ«داعش»، أو متجذرة ذات إرث كـ«القاعدة»، وصولاً لمن يطلق عليهم لقب «الأنصار» بالخارج الذين يتحينون لحظة التمكين للهجرة والانتقال؛ ذلك أن التحول الذي فرضته الأحداث السريعة لسقوط نظام الأسد بهذه الطريقة غير المتوقعة للجميع، حتى التنظيمات، طرح أسئلة ضخمة ومشروعة، وللأسف مغيبة في ظل هذا التحشيد والمقارنات بين الأسوأ والأقل سوءاً.
الخبراء في ملف التنظيمات المسلحة، خصوصاً «السلفية الجهادية»، يدركون أن الحالة السورية مختلفة عن كل التجارب «الجهادية» التي سبقتها من حيث البنية التحتية للتنظيمات والكتلة الصلبة والأفكار المؤسسة التي احتاجت إلى وقت كبير لكي تأخذ مسارات مختلفة على وقع الانتصارات السريعة التي حققتها الفصائل السورية المعارِضة، وتصدّر «هيئة تحرير الشام»، وقائدها أبو محمد الجولاني، المشهد. كثر التساؤل، ربما في خارج البلاد أكثر من داخلها، عن مدى جدية تخلي هذا التنظيم عن «السلفية الجهادية» التي اعتنقها منذ نشأته باسم «جبهة النصرة».
يعرف كثير من المتخصصين أن تحولات «هيئة تحرير الشام»، بمن في ذلك رجلها الأول، قديمة وتراكمية وربما متناقضة في خطها الزمني نحو الاعتدال أو التطرف، وذلك منذ تدشين ما سمي إدارة الشؤون السياسية، التي استعان فيها الجولاني بزيد العطار، أحد أهم الشخصيات التي يعتمد عليها، والتي كانت تعتمد على إرسال التطمينات منذ سنوات، خصوصاً في تأسيس العلاقة مع تركيا حول مسألة الموقف من التنظيمات الأخرى، لكنها تطمينات كانت تخص الفاعلين في صنع القرار وليس «الكتلة الصلبة» وجموع المقاتلين.
اقرأ أيضا.. خطايا المشهد السوري
التأصيل لـ«متن التطمينات» جزء من بناء نظري كبير تطور فيه الخطاب «الجهادي» خصوصاً في التنظيمات المحلية التي ارتأت ضرورة عدم تبني أي نشاط خارج الحدود بعد الضربات الموجعة لتنظيم «داعش» في مناطق الصراع وتفضيل «القاعدة» العمل في مناطق بعيدة عن التركيز والاستهداف، مثل غرب أفريقيا وغيرها من الملاذات الآمنة، وكان المحفز لهذا التحول هو توحيد العمل على إسقاط نظام الأسد بوصفه أولوية، وهناك مدونة ضخمة من التبريرات تدخل ضمن ما يطلق عليه «السياسة الشرعية» داخل هذه التنظيمات ومنظريها الكبار لـ«الجهاد» المعولم.
دأبت «هيئة تحرير الشام» حتى حين كانت تحت اسم «جبهة النصرة» على ضبط مقاتليها في شمال سوريا وتحريك القوات وفق إيقاع محدد ينسجم مع الظروف التي تضمن بقاءهم، وكان أهم ما مكنهم من ذلك تراتبية تنظيمية شديدة التعقيد والانضباط يرفدها عدد من القيادات الشرعية والعسكرية واستقطاب شخصيات مدنية في مجلس شورى التنظيم تم تجنيدها بناء على هدف محدد، مفاده أن مرحلة التمكين مؤجلة إلى الوصول إلى السلطة، وهو ما يمكن وصفه بـ«الجهادية السلطوية»، ومن ثمّ كل الرافضين لهذه التحولات منذ سنوات تم إقصاؤهم من المشهد العسكري أو اعتقالهم داخل سجون «هيئة تحرير الشام»، وبعض هذه التيارات وإن كانت متطرفة لكنها لم تحمل السلاح كحزب التحرير أكبر أعداء «الهيئة» من الزاوية النظرية لا العملياتية، إضافة إلى المنافسين المسلحين مثل حراس الدين النسخة السورية من تنظيم «القاعدة»، وكان جزءاً من صعود واستقطاب المقاتلين الأجانب الذين لوح الجولاني في أحد أخطائه القليلة في المتن البراغماتي بتجنسيهم، الوعدُ بالتمكين والسلطة وعدم الاستعجال، ومنهم كثير من العرب والتركستان والأوزبك وبعض شخصياتهم ما زالت تظهر وتحاول التأصيل لموضوع «السياسة الشرعية» على شبكات التواصل الاجتماعي، بل وتتحدث عن مآلات «الأنصار»، وهم المقاتلون غير السوريين بكثير من الطموح في الاندماج والذوبان داخل سوريا، وكان جزءاً من قبولهم تحولات «جبهة النصرة»، خوف الانتقال إلى ساحات «جهادية» جديدة أو الملاحقات الدولية.
المحرك الأول للتحولات وبشكل متكرر حتى قبول وجود أي أمل بعد سقوط نظام الأسد هو إرسال رسالة واضحة لتركيا بشكل أساسي وللغرب بأن «الهيئة» لن تشكل أي خطر على الدول خارج سوريا، كما أن لدى الجماعة قناعات تمكنها من إدارة ملف الأقليات، وساعد في تقبل ذلك الحالة المتردية والوحشية لنظام الأسد والخطوط العريضة على مستوى الحياة المعيشية داخل إدلب التي جربت الجماعة فيها الإدارة المحلية بشكل موازٍ لكن بدعم تركي مباشر في ملف تأسيس شركات خاصة وشبكة اتصالات، وصولاً إلى التحول إلى الليرة التركية، لكن التنظيم كان يواجه عقبات كبيرة على مستوى المعارضة لجمهور المقاتلين والمجتمع، وكان الحل المباشر إنشاء جهاز أمني شديد القسوة والرقابة لكن من دون وحشية نظام الأسد مع فتح الباب لاستقبال كل الذين سئموا من الأوضاع في المناطق المهمشة أو طمحوا في العيش في إدلب فراراً من الضربات ضد تنظيم «داعش» أو جحيم حالة اللادولة أو نظام الأسد الوحشي.
هذه التجربة الجديدة على ما ألفه الناس وارتسخ في أذهانهم من صورة الحركات «الجهادية» أو التنظيمات الإرهابية قد تكون مشجعاً على مشروع إعادة التأهيل ومنحهم الوقت لتحويل الأقوال إلى الأفعال أو دفعهم لمزيد من التطور، لكنها حتماً لا يمكن أن تكون حلاً لسوريا الأكثر تعقيداً وحاجة لبناء دولة، أو للسوريين الذين لن يقبلوا على المدى الطويل إعادة تدوير الأزمات وفقدان السيادة وحالة اللادولة مجدداً.