القضية الفلسطينية والمزايدات!
لم يقدم العراق أي مساعدات حقيقية للسلطة الفلسطينية، أو لغزة، خلال تلك السنوات، بل لم يشارك العراق في إعادة إعمار غزة بعد عملية «الجرف الصامد» عام 2014 حين تعرضت المدينة لدمار كبير!.
تاريخيا، كان العراق الدولة الوحيدة (من غير دول الجوار الفلسطيني مصر وسوريا والأردن ولبنان) التي شاركت في حرب عام 1948. ولا تزال مقبرة شهداء الجيش العراقي (وعددهم 44 شهيدا) في مدينة جنين التي دافعوا عنها، شاهدا على ذلك.
كما رابطت القوات العراقية بين حزيران عام 1967 وشباط 1971 في الأردن استعدادا لأي تطور في الجبهة الأردنية، وإن كانت الظروف لم تتح، آنئذ، للقوات البرية العراقية فرصة المشاركة في معركة حزيران 1967، لكن القوة الجوية العراقية شاركت بفعالية كبيرة في هذه المعركة. كما شاركت هذه القوة سنة 1973 في المعركة على الجبهة المصرية، وهو ما وثقه رئيس الأركان المصرية الأسبق سعد الدين الشاذلي في مذكراته. وشاركت القوات العراقية، التي لم تعلم بتوقيت المعركة إلا عبر الإعلام، في صد القوات الإسرائيلية عن دمشق، وكان لها الدور البارز في دفعها إلى الخلف، قبل أن تفاجأ بوقف إطلاق النار!
لم يكن موقف العراق مرتبطا بالسياق السياسي وحسب، بل اجتماعيا أيضا حيث كانت القضية الفلسطينية واحدة من ثوابت الشعب العراقي، وكانت حاضرة في وجدان الجميع.
لكن الأمر تغير تماما بعد عام 2003، وبات العراق الرسمي غير معني تماما بالقضية الفلسطينية، سياسيا وماليا، كما تعرض الفلسطينيون في العراق، سواء ممن جاء إلى العراق بعد 1948، أو بعد ذلك (بلغ عددهم ما بين 34 و 41 ألف لاجئ) إلى عنف مباشر، وتضييق منهجي، أجبر الكثير منهم على المغادرة.
يشرح تقرير هيومان رايتس ووتش المعنون: «لا مفر: الوضع الخطير للفلسطينيين في العراق» (أيلول 2006) التدهور الحاد الذي تعرض وضع الفلسطينيين المقيمين في العراق بعد 2003 حيث «تقوم جماعات مسلحة، جلها من الشيعة، باستهداف هذه الأقلية التي يغلب عليها الطابع السني، فهم يهاجمون مبانيهم، ويقتلون عشرات منهم، ويتوعدونهم بالأذى إن لم يغادروا العراق فورا»!
وحمل التقرير الحكومة العراقية «شطرا كبيرا من المسؤولية عن محنة الفلسطينيين في البلاد» وهي محنة لا تقتصر على دور عناصر وزراة الداخلية في الاستهداف، بل أشار أيضا إلى «شروط تسجيل جديدة شديدة الوطأة تفسح المجال أمام العداوة والبيروقراطية» كان من بينها إلغاء جميع القرارات السابقة التي منحتهم صفة المقيمين الدائمين في البلاد، ومطالبتهم بتجديد إقاماتهم كل ثلاثة شهور، بل واعتقال الكثير منهم بتهمة الإقامة غير القانونية!
بعد معركة تموز 2006، والتدمير الواسع النطاق الذي تعرضت له لبنان، وبيروت بوجه خاص، والضاحية الجنوبية بوجه أخص، لم يشارك العراق في مؤتمر استوكهولم لإعادة إعمار لبنان والذي انعقد بعيد الحرب (2006) فتبعا لأرقام تقرير «لبنان: في الطريق إلى إعادة الإعمار والنهوض» الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء اللبناني 2007، لم تزد تبرعات العراق عن 35 مليون دولار قدمها صندوق التنمية العراقي، في مقابل 570 مليون دولار تقدمت بها العربية السعودية، فضلا عن وديعة بقيمة مليار دولار في البنك المركزي اللبناني لدعم الاستقرار النقدي. و 315 مليون دولار تقدمت به الكويت، وإيداع مبلغ 500 مليون دولار في البنك المركزي اللبناني، فيما قدمت قطر 300 مليون دولار!
كما لم يقدم العراق أي مساعدات حقيقية للسلطة الفلسطينية، أو لغزة، خلال تلك السنوات، بل لم يشارك العراق في إعادة إعمار غزة بعد عملية «الجرف الصامد» عام 2014 حين تعرضت المدينة لدمار كبير! ولم يشارك العراق أيضا في مؤتمر إعادة غزة المنعقد في القاهرة 2014؛ حيث قدمت قطر مليار دولار، وقدمت العربية السعودية نصف مليار دولار، كما قدمت كل من الكويت والإمارات 200 مليون دولار!
اقرأ أيضا| فتح وحماس بين جدلية المصالحة ولاءات نتنياهو
بل إن العراق اكتفى بعد عملية طوفان الأقصى بتقديم مبلغ 25 مليون دولار فقط لا غير لدعم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) مع بعض المساعدات العينية البسيطة قياسا إلى الحاجات الإنسانية في غزة، وقياسا إلى المساعدات التي قدمتها دول أخرى، بما فيها تلك الدول الغارقة في التطبيع (جمعت البحرين مبلغ 18.6 مليون دولار في حملة «أغيثوا غزة» خلال اسبوعين)!
وفي مؤتمر الاستجابة الإنسانية لغزة الذي عقد في البحر الميت في حزيران 2024، شارك رئيس مجلس الوزراء العراقي في المؤتمر، طارحا فكرة إنشاء صندوق لدعم غزة، لكنه لم يقدم أي تعهدات بتقديم مبالغ محددة، في حين أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية تقديم مبلغ 404 ملايين دولار!
بعيدا عن الأموال والمساعدات، كان العراق الرسمي حريصا على الصوت العالي والمزايدات في موضوع غزة، فقد امتنع العراق مثلا عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح وقف إطلاق النار في غزة في تشرين الأول 2023! وعللت وزارة الخارجية هذا القرار غير المفهوم بأنه كان ضد بعض العبارات التي وردت في القرار «التي تتعارض مع التشريعات الوطنية، منها خيار حل الدولتين» قبل أن يعود ويوافق عليه!
ففي سياق المزايدات بين التيار الصدري والإطار التنسيقي شرع مجلس النواب العراقي في العام 2022 قانون بعنوان: «تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني» وعرفت الكيان بأنه المحتل لأراضي دولة فلسطين من سنة 1948» وقرر عقوبات تصل إلى السجن المؤبد لأي مبادرة يمكن أن تفهم على أنها تطبيع.
في حين أن العراق كان قد وافق عام 2002 على قرار الجامعة العربية الخاص بتبني مبادرة الملك عبد الله بشأن القضية الفلسطينية، والتي تضمت حل الدولتين بشكل صريح، ولكن الدولة العراقية في الأيام الأخيرة، وفي سياق التبعية للقرار الإيراني، صارت ترفض هذا الحل. ففي اجتماعات الاتحاد البرلماني العربي المنعقد في الجزائر في أيار 2024، وافق الاتحاد على رفع عبارة «مبدأ حل الدولتين» من البيان الختامي للمؤتمر، بعد اعتراض الوفد العراقي عليها، كما جاء في بيان أصدرته الدائرة الإعلامية لمجلس النوابي العراقي!
وكانت السلطة الفلسطينية، ولا تزال، تدعو إلى حل الدولتين، وحركة حماس نفسها قد وافقت ضمنا على هذا الحل عام 2007، لكن الإيرانيين والعراقيين لهم رأي آخر!
والسؤال الذي يجب طرحة هنا، هل سيستمر العراق في هذه المزايدة غير المفهومة بعد إبداء إيران مرونة واضحة في موضوع حل الدولتين؟ كما يتضح ذلك من تصريحات وزير الخارجية السابق حسن أمير عبد اللهيان العام الماضي حول الاستفتاء الفلسطيني بشأن حل الدولتين وقد كرره رئيس الجمهورية قبل أيام عندما قال إذا توصل الفلسطينيون إلى اتفاق بهذا الشأن فلن نعارض وهذا خيارهم!
المواقف لا تقاس بالصوت العالي والصخب والمزايدات، بل يجب أن تترجم إلى مواقف حقيقية، وليس من حق أي طرف، كائنا من كان، أن ينصب نفسه «وصيا» على الفلسطينيين وخياراتهم.