تتعامل القاهرة مع مقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن توطين جزء من سكان قطاع غزة في مصر بحسم، ولا تمنح التذبذب والتناقض والتباين الذي يكتنفه أهمية، لأن تمريره أو تمرير مقاطع أدنى منه يعني تخريب القواعد التي اعتمدتها مصر منذ عقود طويلة حيال القضية الفلسطينية، وتعريض الأمن القومي لأزمات صعبة، في وقت قد تتزايد فيه الصراعات الإقليمية، ويتم التخطيط لإعادة هندسة منطقة الشرق الأوسط بما يتناسب مع مقاس وأهداف إسرائيل.
تتحرك مصر عمليا لسد الأبواب والنوافذ التي يمكن أن يتسلل منها مقترح ترامب، لأن مكوناته الخفية قد تكون أبعد مما هو معلن حتى الآن، وتشير التحركات المصرية إلى استعداد جيد للتعامل مع المعطيات المركبة، وكأن القاهرة لم تفاجأ كثيرا بمقترح ترامب وتوابعه، وكانت تنتظر شيئا شبيها، ما جعل تعاملها مع الأمر يتسم بحكمة.
ولم تمنح مصر لإسرائيل ذريعة طوال فترة الحرب على غزة تمكنها من جر القاهرة إلى الصراع مباشرة، وفشلت غالبية محاولات تل أبيب للتشكيك في تصورات مصر، وأخفقت مساعيها في خلق فتنة بينها وبين الفلسطينيين، أو تثبيت اتهام تكرر كثيرا بأن مصر قدمت أسلحة ومعدات لحركة حماس عبر الأنفاق لإيذاء إسرائيل.
تجهز مصر بالتنسيق مع الأردن والسعودية والإمارات وقطر حاليا خطة عملية لإعادة إعمار قطاع غزة دون خروج السكان الأصليين، وتتضمن خطوطها العريضة نقل عدد من السكان من جنوب غزة إلى شمالها أو العكس، وتتخللها إزالة الركام وبقايا المنازل المهدمة ووضع مخيمات وبيوت متنقلة مجهزة يقيم بها السكان ويتم توفير مؤسسات صحية ومدارس إلى حين البدء في عملية البناء الحقيقية في غضون ستة أشهر، بتكلفة مبدئية تبلغ حوالي 40 مليار دولار، تتحملها كلها أو جزءا منها بعض دول الخليج، بمشاركة شركات مقاولات مختلفة، في مدة تصل إلى خمس سنوات.
تلقت الخطة العربية مساندة غير مباشر من وزير خارجية الولايات المتحدة مارك روبيو قبيل زيارته إسرائيل والسعودية والإمارات، حيث قال على الدول العربية أن تقدم خطة بديلة لمقترح التوطين، ما يشير إلى تراجع أميركي تدريجي، وسط اعتراض 143 نائبا في الكونجرس الأميركي على تصور ترامب، وتوقيع نحو 350 من الحاخامات في الولايات المتحدة على بيان ضده.
وتُعقد في الرياض قمة خاصة بدراسة مستقبل غزة في العشرين من فبراير الجاري، بحضور زعماء السعودية ومصر والأردن والإمارات وقطر، تناقش ملف إعادة الإعمار وآلياته والجهات التي سوف تقوم بالتمويل، ومن المرجح توجيه دعوة لمشاركة عدد من الدول الأوروبية في الخطة، بشقيها السياسي والاقتصادي، مثل فرنسا وألمانيا ولهما مواقف رافضة لتوطين سكان غزة في مصر والأردن.
تحوي الخطة المصرية – العربية آلية لعدم مشاركة حركة حماس في إدارة غزة بعد وقف الحرب وتوفير إدارة من التكنوقراط، استنادا إلى مبادرة القاهرة حول تشكيل ما يسمى بلجنة الإسناد المجتمعي، لتشرف على قطاع غزة بعد اليوم التالي لوقف الحرب، وتدير عملية إعادة الإعمار التي سوف تُواجه حتما بعراقيل من جانب إسرائيل.
تتولى قمة الرياض المنتظرة تحديد نقاط ترفع إلى القمة العربية الطارئة بالقاهرة في السابع والعشرين من فبراير الحالي للتصديق عليها بحضور كل زعماء ورؤساء الدول العربية، كي يقدم الموقف في صورة جماعية لإحراج ترامب، وتأكيد أن مشروع التوطين الذي بدأت تستغله إسرائيل وقوى اليمين فيها غير قابل للتطبيق وقد يجلب صراعات أكبر ويهدد مصالح الولايات المتحدة، وإسرائيل.
إقرأ أيضا : خيارات مصر أمام الضغوط الأمريكية بشأن تهجير الفلسطينيين
تدرك غالبية الدول العربية أن الفشل هذه المرة يعني أن ترامب سوف يمضي في مقترحه، وما ينطوي عليه من محددات وتفاصيل مجهولة حتى الآن، ولذلك هناك تعامل جاد من القاهرة مع الموقف، فالتوطين لن يضر مصر والأردن والقضية الفلسطينية فقط بل يعني أن إسرائيل هي التي ستقوم بترتيب أوضاع الشرق الأوسط بما يتناسب مع مصالحها فقط، وتهيمن على دوله بشكل واسع، وتضر بدول كبيرة في المنطقة مثل مصر التي تتعامل مع التوطين كقضية مصيرية ولا توجد فرصة أو رفاهية سياسية لخسارتها.
هناك تحضيرات جادة لقمة الرياض التي تضم خمس دول معنية كثيرا بمقترح ترامب ثم قمة القاهرة الطارئة الموسعة، ثم قمة بغداد الدورية في مارس المقبل. وتمثل هذه القمم اختبارا جديدا لمدى عودة التعاون والتنسيق بين الدول العربية، فقد نجحت تحركات إسرائيل مؤخرا في تهميش القضية الفلسطينية.
من التحديات الرئيسية التي تواجه تنفيذ الرد المصري المضاد لمقترح ترامب عدم قبول حماس بالابتعاد تماما عن إدارة غزة بشكل واضح، ووجود فساد في هياكل السلطة الفلسطينية، وشكوك كبيرة في قدرتها على الإدارة خلال المرحلة المقبلة، علاوة على استمرار الانقسام بين الحركات الفلسطينية، ما يمنح مقترح ترامب دفعة معنوية ويجعل إسرائيل تصر على موقفها الرافض لحل القضية الفلسطينية.
أعتقد أن الهدف الإستراتيجي الذي يمكن أن تفضي إليه خطة ترامب هو تصفية القضية الفلسطينية، وقطع الطريق على فكرة حل الدولتين والنزول بالسقف الفلسطيني إلى أدنى مستوى ممكن، وقد يكون ترامب غلّف مقترحه بطابع إنساني لجذب الأنظار إليه، والتركيز على إنهاء أيّ أمل في دولة للفلسطينيين، فالتوطين يشمل غزة الآن، ومستقبلا سوف يأتي الدور على الضفة الغربية التي لم يخف ترامب نواياه لضمها إلى إسرائيل وترحيل سكانها من الفلسطينيين إلى الأردن، الأمر الذي تدركه القاهرة وتتعامل معه بخطوات عمليه كي لا يتحول الخيال حاليا إلى واقع لاحقا.
من الأمثلة الدالة على هذه المخاوف تطابق مواقف اليمين المتطرف في إسرائيل مع سياسات ترامب بشأن غموض مصير الفلسطينيين وعدم منحهم مساحة أرض تكون نواة لقيام دولة.
يُنهي تنفيذ مقترح ترامب مشروع الدولة الفلسطينية، ويبدو أن الغرض منه التوصل إلى حل جزئي للفلسطينيين في أحسن الأحوال، يعكس ما تريده إسرائيل لهم من كانتونات أو معازل إلى حين تهيئة الأجواء للترحيل الكامل، ويجعل سقف طموحهم ضئيلا ولا يقترب من حلم الدولة المستقلة التي تجد دعما عربيا وأوروبيا ومن روسيا والصين، وتحاول التحركات المصرية الحفاظ على هذا الموقف الجماعي، وتسعى لعدم التفريط فيه، لأنه يعزز قناعتها الواضحة بأن حل الدولتين هو مدخل السلام.
ويُنهي مقترح ترامب أيضا ما تبنته كل الإدارات الأميركية السابقة، سواء جمهورية أو ديمقراطية، حول حل القضية الفلسطينية، استنادا إلى مرجعية بعض القرارات الدولية الخاصة بها، وجعل المرجعية الجديدة أو السقف هو مقترح ترامب فقط، وهي رسالة خطيرة تنعكس سلبا على المنظمات الدولية وتقليص قدرتها على التعامل مع الأزمات في العالم، ما يعني أن مقاييس ترامب لإدارة الخلافات هي التي سوف تحدد أجندة العالم وليس الشرق الأوسط فقط، ما يضر بمصالح قوى دولية وإقليمية كبرى.
وتؤثر سيطرة الولايات المتحدة المباشرة على قطاع غزة (وفقا لإحدى سرديات ترامب) بالتبعية على المنطقة، فإذا قام بالهيمنة على غزة بأيّ صورة ربما تتراجع أهمية إسرائيل الحيوية لواشنطن، لأن جزءا من دور تل أبيب لخدمة الولايات المتحدة نابع من أنها عبارة عن حاملة طائرات متقدمة أو رأس حربة لها.
وإذا جاءت أميركا بكثافة، في شكل اقتصادي أولا وعسكري ثانيا، فهذا يؤثر على شرق البحر المتوسط وما يحويه من احتياطيات غاز واعدة وضعت إسرائيل عينيها عليها، كما أن الولايات المتحدة يمكن أن تطرح السيطرة على قناة السويس لإرباك تصورات القاهرة، على طريقة الرجل مع قناة بنما وجزيرة غرينلاند، ما يؤثر على حركة الملاحة الدولية ويحولها إلى رهينة لأهداف واشنطن، وبالتالي فما يجري أو يمكن أن يجري لا يهم مصر فقط، بل العالم، والذي يريد ترامب هز هياكله الرئيسية.