ليس من المستغرب أن تبدأ منظمة التجسس والمهام الخاصة الإسرائيلية المعروفة باسم «الموساد» بتنفيذ خطتها لابتزاز وإرهاب قضاة محكمة الجنايات الدولية منذ اتخاذ المحكمة قرارها بمحاكمة إسرائيل على جرائم الحرب التي ترتكبها ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، وهذا ما أكدته صحيفة «الغارديان» البريطانية في 29 أيار الجاري في مقال بعنوان «رئيس الموساد يهدد المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية إذا ما حقق في جرائم حرب إسرائيلية».
وكشفت الصحيفة البريطانية أن رئيس الموساد السابق يوسي كوهين الذي ما زال يعمل في الميدان السياسي في تل أبيب، كان قبل ذلك قد هدد بطرقه السرية في عام 2021 حين كان رئيساً للموساد رئيسة محكمة الجنايات الدولية القاضية فاتو بن سودة، إذا ما قررت فتح تحقيق تتهم فيه إسرائيل بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين وبقي التحقيق مجمداً، لكن حرب الإبادة المستمرة التي تنفذها إسرائيل في قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول الماضي جعلت محكمة الجنايات الدولية برئاسة كريم خان تنظر وتتبنى الشكوى التي تقدمت بها دولة جنوب إفريقية ضد إسرائيل لإدانتها بارتكاب جرائم حرب.
وعلى غرار التهديد الذي وجهه الموساد لبن سودة ظهر جليا أن رئيس الموساد الجديد بدأ بتنفيذ حملة تهديدات ضد محكمة الجنايات الدولية لإجبارها على الكف عن النظر في هذه القضية والامتناع عن المطالبة بمحاكمة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت.
ويبدو أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدين هي التي حرضت وشجعت إسرائيل على استخدام الطرق السرية في إصدار رسائل تهديد لقضاة كبار في محكمة الجنايات بما فيهم رئيس المحكمة كريم خان لكي تمنع محاكمة قادة الاحتلال، فقد شن عدد من المسؤولين الأميركيين حملة معادية للمحكمة الدولية وقضاتها في أكثر من مناسبة وهدد بعضهم بأن واشنطن ستفرض عقوبات على قضاة في المحكمة إذا قرروا محاكمة إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، وستمنع عنهم أيضاً الحصول على تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة.
وهذه ليست المرة الأولى التي تهدد فيها الإدارة الأميركية قضاة المحكمة الدولية بمعاقبتهم، فقد هدد الرئيس جورج دبليو بوش في عام 2004 المحكمة الدولية بعقوبات قاسية على قضاتها إذا قرروا المطالبة باستجواب أي ضابط أو مسؤول أميركي لمحاكمته بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين في العراق وفي سجن أبو غريب الذي أعدته قوات الاحتلال الأميركية في العراق لتعذيب وتصفية رجال المقاومة العراقية، وكشفت صحيفة «الغارديان» البريطانية أن منظمة الموساد كانت تجمع معلومات شخصية عن قضاة في محكمة الجنايات الدولية منذ عشرات السنين لتوظيفها في عمليات تهديدهم في الوقت المناسب.
وكانت المجلة الإلكترونية «ذا انتيرسيبت» الصادرة بالإنكليزية قد نشرت مقالاً في 29 آذار عام 2018 بقلم الصحفي البريطاني مهدي حسن تحت عنوان: «جون بولتون يهدد مسؤولاً في الأمم المتحدة: نحن نعرف أين يقيم أبناؤك»، جاء فيه أن الدبلوماسي البرازيلي خوسيه بستاني، وهو من أصل لبناني، ويرأس منظمة منع انتشار الأسلحة الكيماوية، التابعة للأمم المتحدة عام 2002، قبل قرار الغزو الأميركي للعراق، كان قد أغضب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون منع انتشار السلاح جون بولتون، فقرر هذا تهديده بإلحاق الضرر بأبنائه لأنه رفض الموافقة على اتهام العراق بامتلاك سلاح كيماوي، وقال له: أمامك 24 ساعة للتخلي عن رئاسة هذه المنظمة إذا لم تستجب لقرار واشنطن باتهام العراق بامتلاك السلاح الكيماوي، ونحن لدينا طرق للرد عليك إذا رفضت فنحن نعرف أين يقيم أبناؤك، ولديك ابنان في نيويورك.
ورغم هذا التهديد المباشر من أكثر السياسيين الأميركيين تشدداً، أصر بستاني على موقفه ورفض الانصياع لأوامر بولتون، وكان المسؤول الأميركي السابق لمتابعة موضوع حظر السلاح الكيماوي غوردون فاشون قد أكد هذه الحقيقة حين ذكر للمجلة أنه كان مع جون بولتون في أثناء إطلاقه هذا التهديد المباشر في مكتب خوسيه بستاني نفسه في الأمم المتحدة.
هذه الغطرسة الأميركية الوحشية وأشكال التهديد والابتزاز التي تنتهجها لا يمكن أن تحقق أي هيمنة أميركية حين تجد من يقاومها ويرفض الانصياع إليها وهو ما سيفعله قضاة المحكمة الدولية في موضوع محاكمتهم لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني.