لم يكن مشهد نزوح سكان شمال غزة إلى الجنوب هذه المرة كما كان في المرات السابقة؛ فالوجوه التي اعتادت على الأمل لم تعد تُخفي خيبتها، والأقدام التي شقت طريقها شمالًا بحثًا عن العودة، عادت أدراجها محمّلة بيقين أن لا مكان للحياة هناك. فقد أدرك الفلسطينيون العائدون إلى الشمال، بعد طول انتظار، أن مدنهم التي لفظتهم تحت أزيز القصف لم تعد قادرة على احتضانهم، وأن العودة إليها ليست سوى وهم رسمته الأماني وبدّدته قسوة الواقع.
لقد ترك الصراع المستمر في غزة عددًا لا يحصى من السكان يتصارعون مع واقع لا يطاق: الشمال، الذي كان في يوم من الأيام موطنهم، أصبح أرضًا قاحلة غير صالحة للعيش. إن الحركة الأخيرة للأفراد النازحين الذين حاولوا في البداية العودة إلى الشمال، ثم تراجعوا إلى الجنوب، تسلط الضوء على حقيقة مأساوية – وهي أن العودة إلى الشمال هي ببساطة غير ممكنة.
لا تؤكد هذه الحركة الجماهيرية الدمار المادي فحسب، بل تؤكد أيضًا الخسائر النفسية والاقتصادية التي خلفتها الحرب. وعلى الرغم من الحنين العميق إلى الوطن، فإن الحقائق الصارخة المتمثلة في الدمار ونقص البنية التحتية وغياب الخدمات الأساسية أجبرت الكثيرين على التخلي عن آمالهم في إعادة التوطين. تكشف هذه الأزمة العواقب الوخيمة للصراع الذي طال أمده، وتثير أسئلة حاسمة حول مستقبل غزة.
بالنسبة للعديد من الفلسطينيين النازحين، كانت فكرة العودة إلى ديارهم بارقة أمل. وتمسكت العائلات، التي سئمت من أشهر من النزوح، بإمكانية إعادة بناء حياتها في الشمال. ولكن عند عودتهم، واجهوا مشهدًا من الخراب التام – المباني المنهارة، والملاجئ غير الصالحة للسكن، والشوارع التي تحولت إلى أنقاض. الأماكن التي عملوا فيها ودرسوا وتجمعوا مع أحبائهم لم تعد أكثر من بقايا حياة عرفوها من قبل.
إقرأ أيضا : أزمة النوايا والخيارات.. اليوم التالي لحرب غزة؟
وبعيداً عن الدمار المرئي، هناك أزمة أعمق: غياب الضروريات الأساسية مثل الغذاء والمياه النظيفة والكهرباء والخدمات الطبية. وحتى لو ظلت المنازل قائمة، فإنها تفتقر إلى أساسيات البقاء على قيد الحياة. ولم يترك هذا الواقع المرير أمام الكثيرين أي خيار سوى اتخاذ القرار المؤلم بالعودة إلى الجنوب، حيث يتوفر الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية على الأقل.
إن التهجير القسري للأشخاص من منطقة مدمرة إلى أخرى يسلط الضوء على الحجم الهائل للكارثة الإنسانية التي تتكشف في غزة. وقد حذرت المنظمات الدولية باستمرار من أن الظروف في الشمال تجعل من المستحيل على المدنيين إعالة أنفسهم. وقد دفع نقص الإمدادات الغذائية الكثيرين إلى حافة المجاعة، ومع عدم وجود مستشفيات أو صيدليات عاملة، تكاد تكون الرعاية الطبية معدومة.
وتثير أزمة النزوح أيضاً مخاوف أخلاقية وقانونية خطيرة. ويدفع المدنيون من منطقة غير مضيافة إلى أخرى، ويجدون أنفسهم عالقين في دائرة من النزوح دون نهاية في الأفق. إن حق الفرد في العودة إلى منزله هو مبدأ أساسي من مبادئ القانون الدولي، ولكن بالنسبة لسكان غزة، فقد أصبح هذا الحق بلا معنى بسبب الحقائق على الأرض.
تشير عودة السكان إلى الجنوب إلى أزمة أعمق في مستقبل غزة. ويشير ذلك إلى أنه من غير المرجح أن يتم إعادة تأهيل المنطقة الشمالية في أي وقت قريب، مما يترك الآلاف من الناس في حالة من النسيان. وهذا له آثار سياسية كبيرة، لأنه يثير تساؤلات حول ما إذا كانت هناك استراتيجية طويلة المدى لتلبية احتياجات السكان النازحين أو ما إذا كانت معاناتهم تطول إلى أجل غير مسمى.
علاوة على ذلك، تعكس عودة السكان وتراجعهم اللاحق الجمود الجيوسياسي الأوسع في المنطقة. ويشير استمرار الأعمال العدائية، إلى جانب عدم وجود خطة فعالة لإعادة الإعمار، إلى أن مستقبل غزة لا يزال غامضا. وبدون بذل جهود متضافرة من جانب المجتمع الدولي للضغط من أجل التوصل إلى حل، فإن دائرة النزوح واليأس سوف تستمر.
إن المحنة التي يعيشها سكان غزة النازحون تشكل اختباراً للضمير الأخلاقي العالمي. ولا يجوز للمجتمع الدولي أن يستمر في التعامل مع هذه الأزمة باعتبارها قضية خلفية. ويجب أن تكون هناك جهود متضافرة لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين وإجراء مناقشات جادة حول إعادة بناء غزة.
علاوة على ذلك، وبعيداً عن جهود الإغاثة الفورية، يجب أن تكون هناك دفعة سياسية لإنهاء الظروف التي جعلت العودة مستحيلة. ولا يمكن تحقيق السلام المستدام دون معالجة الأسباب الجذرية للنزوح والدمار. إن سكان غزة يستحقون أكثر من مجرد ملاجئ مؤقتة وحصص غذائية – فهم يستحقون مستقبلاً يستطيعون فيه إعادة بناء حياتهم بكرامة.
إن الواقع المأساوي الذي يواجه سكان غزة النازحين هو واقع اليأس وعدم اليقين. إن محاولتهم العودة إلى الشمال، والتي أعقبها انسحابهم إلى الجنوب، هي تذكير صارخ بالدمار الذي حدث. إن عدم القدرة على العودة إلى الوطن ليس مجرد مشكلة لوجستية، بل هو مأساة إنسانية تؤكد الحاجة الملحة للتدخل الدولي.
وبدون حلول فورية وطويلة الأمد، فإن معاناة سكان غزة سوف تتفاقم. ومن الضروري ألا يغض العالم الطرف عن محنتهم. إن سكان غزة يستحقون أكثر من مجرد البقاء على قيد الحياة؛ إنهم يستحقون الحق في العيش وإعادة البناء والأمل بمستقبل يتجاوز الحرب والنزوح.
ورغم كل ما حصل فإن الصمود الأسطوري لشعب غزة ينبغي أن يُدرّس في المدارس العربية كنموذج للمقاومة والتشبث بالأرض. فقد أثبت أهل غزة، بتضحياتهم الجسيمة، مدى ارتباطهم بوطنهم رغم الظروف القاسية