تركيا

العنصرية في تركيا ظاهرة متأصلة وليست موجة عابرة

الاعتداءات التي طالت العشرات والمئات من اللاجئين السوريين في تركيا في الفترة الأخيرة والمرشحة للتنامي ليست بحوادث فردية أو موجة عابرة كما تروّج لذلك وسائل الإعلام التركية والموالية لها، وإنما تعكس خللًا بنيويًا عميقًا في المجتمع التركي يعود بجذوره إلى عشرات بل إلى مئات السنين

منذ نشوب الحرب الأهلية في سوريا عام 2011 وتوجه الملايين من السوريين المتضررين من جحيمها إلى تركيا، لم تتوقف سلسلة الاعتداءات العنصرية التركية ضدهم. لكنها اكتست مؤخرًا طابعًا أكثر منهجية وهمجية إلى أن أصبحت هذه الاعتداءات من الأخبار والسلوكيات المألوفة والاعتيادية في مجتمع يفور بالعنصرية ويؤمن بالتفوق العرقي التركي، وفي دولة شيدت بالأساس على أراضي  الآخرين وعذاباتهم نتيجة نفاق كبار اللاعبين العالميين وبلاهة اللاعبين المحليين.

المادة الثالثة من الدستور التركي تقول: “دولة تركيا، بأمتها وأراضيها، كيان غير قابل للانقسام، ولغتها هي اللغة التركية”. وبقية القوميات غير التركية إما عليها الانصياع والذوبان القسري والطوعي أو أن تذوق مرارة القمع والتنكيل والاضطهاد سواء في داخل تركيا أو خارجها وفق الوصفة التركية الفريدة في فنون البطش والانتقام.

إن تنامي العنصرية في أي مجتمع يعكس وجود خلل بنيوي عميق وعريض تتقاطع فيه مجموعة من العوامل التاريخية والحضارية والفكرية والسياسية المتشعبة والمتداخلة، وليس فقط نتيجة خلل سياسي أو إداري أو مؤسساتي، ولاسيما عندما تتحول العنصرية إلى ظاهرة ضاربة الجذور في التاريخ والثقافة والسياسة، وليست مجرد موجة وقتية أو سحابة صيف عابرة.

صحيح أن العنصرية موجودة تقريبًا في كل دولة من دول العالم وبمناسيب متفاوتة بصرف النظر عن القارة والهوية الوطنية والعرقية والدينية والمذهبية والجغرافيا، فهذه الآفة لازمت البشرية منذ ظهورها، ومازالت تصاحب بعض البشر وهي قابلة للصعود والهبوط حسب الظروف والأهواء التي تتداخل فيها الحسابات والخرائط السياسية المحلية والإقليمية والدولية، لكن الفرق هنا أنها تبقى في معظم الدول في إطار الموجة المؤقتة الزائلة أو الهبّة التي سرعان ما تتلاشى، بينما تكون أو تتحول في دول قليلة أخرى إلى ظاهرة لها أصول تاريخية وفكرية وثقافية وحضارية بحيث تصعب معالجتها أو اقتلاعها من الجذور.

بقاء العنصرية في إطار الموجة المؤقتة، بمعنى القدرة على فرملتها وكبح جماحها أو تحولها إلى ظاهرة مجتمعية ضاربة الجذور، مسألة تتعلق بالميراث التاريخي والثقافي والحضاري والسياسي لأيّ مجتمع من المجتمعات ولأيّ دولة من الدول. بمعنى آخر، من الصعب جدًا إن لم يكن من المحال تحول العنصرية في بعض المجتمعات والدول إلى ظاهرة لانعدام مقومات الوجود والنمو والازدهار على الأصعدة التاريخية والحضارية والثقافية والسياسية. بينما هي بالأساس ظاهرة أو تتحول بسرعة قياسية إلى ظاهرة لغزارة وتكاثر عناصر الوجود والنماء والانتعاش.

عندما قامت مؤخرًا مجموعات عنصرية في بريطانيا لم تتجاوز أعدادها المئات بتنظيم احتجاجات ضد اللاجئين بما في ذلك ممارسة الاعتداء الجسدي واللفظي والنفسي ضد تجمعات اللاجئين وبعض المساجد، قام الناشطون البريطانيون بالمقابل بتنظيم مظاهرات سلمية حاشدة شارك فيها عشرات الآلاف من الإنجليز تضامنًا مع اللاجئين وترحيبًا بهم مطلقين شعارات تحدّوا فيها غلاة العنصريين في بريطانيا. هذا عدا الإجراءات الحازمة والعقوبات الصارمة التي أصدرتها الحكومة والقضاء بحق بعض المشاركين في تلك الاحتجاجات والمروّجين لها على السوشيال ميديا. علمًا أنه على الصعيد الرسمي فإن حزب الإصلاح البريطاني المناهض للهجرة يستحوذ على خمس مقاعد فقط في مجلس العموم البريطاني من أصل 650 مقعدًا.

والسؤال هنا، هل شهدت تركيا مظاهرات مماثلة للتضامن مع اللاجئين السوريين بعد سلسلة الاعتداءات العنصرية التي طالتهم في أكثر من مكان وتخريب ممتلكاتهم والاعتداء على أرزاقهم؟ الجواب ببساطة هو لا. مع العلم أن اللاجئين السوريين لا يستلمون أيّ مساعدات من الحكومة التركية وتقدر الاستثمارات السورية في تركيا بعد 2011 بـ10 مليارات دولار، ويعمل عشرات الآلاف من السوريين بشكل رسمي ويدفعون أجور السكن وتكاليف المعيشة من خلال الأعمال والوظائف التي يزاولونها. وبالنسبة إلى اللاجئين السوريين المقيمين في مخيمات اللجوء في تركيا والدول المجاورة، فإن المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة تتكفل بتقديم كافة المساعدات العينية والنقدية لهم دون تحمل تركيا أو الدول الأخرى أيّ أعباء، وكافة الادعاءات المناقضة على الإعلام ما هي إلا محض افتراء ولغايات انتخابية وسياسية معينة. وكل ما قدمه أردوغان وحكوماته المتعاقبة للاجئين السوريين هو تحويلهم إلى ورقة ابتزاز لمفاوضة الاتحاد الأوروبي في محاولة لفرض الشروط عليه، ومن ناحية أخرى حوّل نظام أردوغان جزءًا آخر منهم إلى مقاتلين مرتزقة وتحت الطلب وأرسلهم إلى ليبيا وناغورني قره باغ ليعيثوا فيهما فسادًا وخرابًا، وكل هذا بواسطة الائتلاف السوري المعارض الذي ينفذ أجندات المحتل التركي في شمال سوريا وشمال شرقها.

اكتوى الكُرد في تركيا بنار العنصرية وجرائم الكراهية على الصعيدين الرسمي والمجتمعي قبل أن يكتوي بلظاها اللاجئون السوريون لعقود من الزمن وهم نظريًا يعتبرون مواطنين “أتراكا”. وشمل هذا الاكتواء مختلف الميادين السياسية والثقافية والإدارية وحتى الرياضية. فغالبًا ما تطلق أهازيج وعبارات عنصرية ضد لاعبي الفرق الكردية في ديار بكر وغيرها ويتم وصمهم بالإرهاب من قبل جماهير الفرق التركية الأخرى، وبأنهم يناصرون حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا منظمة إرهابية. الأفعال العنصرية التركية طالت حتى الموسيقى والفنون الشعبية الكردية، إضافة إلى زج المناضلين الكُرد بمن فيهم أعضاء البرلمان التركي الذين انتخبوا من قبل الناخبين في غياهب السجون بعد تجريدهم من حقوقهم المدنية ومن الحصانة البرلمانية بجرة قلم وفق أحكام قرقوشية لطالما تفردت بها تركيا.

إقرأ أيضا : لماذا احتمالات فوز هاريس أصعب من فرص ترمب؟

الاعتداءات التي طالت العشرات والمئات من اللاجئين السوريين في تركيا في الفترة الأخيرة والمرشحة للتنامي ليست بحوادث فردية أو موجة عابرة كما تروّج لذلك وسائل الإعلام التركية والموالية لها، وإنما تعكس خللًا بنيويًا عميقًا في المجتمع التركي يعود بجذوره إلى عشرات بل إلى مئات السنين، وبالتالي هي ظاهرة متجذرة في العقل المجتمعي والرسمي التركي. وكما يقول الثائر الأفريقي نيلسون مانديلا “لا يوجد إنسان ولد يكره إنسانًا آخر بسبب لون بشرته أو أصله أو دينه. الناس تعلّموا الكراهية”. إن الوقود الرئيسي للإبادة الجماعية للأرمن 1915 – 1916 من قبل الأتراك العثمانيين كان العنصرية والكراهية والتمييز الديني والمذهبي، وجرائم الإبادة الجماعية ضد الكُرد وهدم الآلاف من قراهم كانت الدوافع عنصرية وعرقية بامتياز. وما يثير حفيظة أردوغان عندما تصف الدول الغربية أفعال أجداده بحق الأرمن بالإبادة، هو العنصرية، وما يدفع أردوغان إلى ملاحقة الكُرد وقتلهم وخنق طموحاتهم في الحرية والاستقلال هو العنصرية والكراهية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى