العلمانية في أوروبا.. وموقف الأمم المتحدة
ألا يعرف مسؤولو الأمم المتحدة أن حرية الضمير وحقوق الأقليات وحقوق المرأة لا يمكن ضمانها إلا في دولة علمانية؟ وهو ما ورد في المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الأمم المتحدة نفسها “لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الفكر والوجدان والدِّين.
يبدو بوضوح أن العلمانية ليست مقبولة سوى على مضض في هيئات الأمم المتحدة إذ تواجه عداء شبه صريح على مستوى الجمعية العامة. ويبدو ذلك جليا على مستوى مجلس حقوق الإنسان على وجه الخصوص حيث أصبحت الكلمة مثيرة للامتعاض إلى درجة بات يُتجنّب ذكرها خوفًا من المساس بالمصالح الاقتصادية لقوى دولية معينة.
كثيرا ما ينظر إلى العلمانية على أنها فكرة معارضة لفكرة مهيمنة بقوة على مجلس حقوق الإنسان هي “النسبية الثقافية”. هذه الخصوصية الثقافية المفترضة التي تدّعي الدفاع عن فكرة معقولة لكن يراد بها التضليل والقائلة بأن لكل شعب تقاليده وعاداته التي يجب أن تكون بالضرورة إيجابية، وبالتالي من الواجب احترامها حتى وإن تعارضت مع القيم الإنسانية العليا الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية الأخرى.
بسبب هيمنة وجهات النظر الأنجلوسكسونية في مسألة العلمانية وخوف الموظفين في الأمم المتحدة المزمن من إغضاب بعض الدول الإسلامية المتشددة، فمن غير المرغوب فيه اليوم التحدث بإيجابية عن الفصل بين الدين والدولة داخل أروقة الأمم المتحدة. فقد أصبح اللوبي الإسلامي المناهض للعلمانية مؤثرًا للغاية بل ومراقبا للوضع.
ينظر إلى العلمانية في بعض مصالح الهيئة الأممية على أنها اعتداء صريح على حقوق الإنسان الدينية. وكأنها ليست هي الوسيلة الأساسية لضمان حرية جميع المواطنين أو المؤمنين أو الملحدين أو اللاأدريين.
ألا يعرف مسؤولو الأمم المتحدة أن حرية الضمير وحقوق الأقليات وحقوق المرأة لا يمكن ضمانها إلا في دولة علمانية؟ وهو ما ورد في المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الأمم المتحدة نفسها “لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الفكر والوجدان والدِّين، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في تغيير دينه أو معتقده، وحرِّيته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة”.
لكن في المجتمعات الأنجلوسكسونية الغارقة في الانعزالية الثقافية، فُرض على أذهان الناس معنى مضلل للعلمانية: اعتبارها قمعا للأقليات وخنقا للحريات الدينية. وكثيرا ما هاجمت بعض الدول فكرة العلمانية في هيئات الأمم المتحدة وعلى الصعيد الوطني بتلك الذريعة نفسها.
أما بالنسبة إلى المناضلين الأصوليين من مختلف الديانات، والذين هم عادة أعداء للعلمانية، فقد تحالفوا منذ بداية التسعينات بهدف واحد: شيطنة العلمانية في الأمم المتحدة.
فإذا كان الأصوليون الإسلاميون والمسيحيون مختلفين في كل أمر، دينيا كان أو دنيويا، فإنهم يقفون كرجل واحد ضد المساواة بين النساء والرجال ويدّعون الدفاع عن القيم التقليدية ويناهضون إبعاد الدين عن السياسة.
لأسباب انتهازية، انضم بعض اليساريين والعديد من الأكاديميين الأوروبيين إلى معسكر الأصوليين وهم في الحقيقة لا يحملون في أذهانهم سوى فكرة كاريكاتورية عن العلمانية.
حتى في فرنسا، مهد العلمانية، ترتفع الأصوات ضد قانون 1905 القائل بفصل الدين عن الدولة وتطالب بمراجعة معمقة لهذا القانون الذي تعتبره تمييزيا! وظهر اتجاه جديد بدأ ينتشر في الجامعات الغربية ويؤثر تدريجياً على الفلسفة التقليدية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وهو اتجاه يعتبر القيم الكونية تهديدًا لحقوق الأقليات، بل هو مشروع استعماري على النقيض من “النسبية الثقافية” والتي هي في نظر هؤلاء المهادنين للأصوليات نزعة مناهضة للاستعمار.
بدلاً من الدفاع، على مستوى الهيئات الدولية، عن المساواة المطلقة بين البشر وحقوق الجميع، يدافع “النسبيون الثقافيون” عن الحقوق الخاصة لكل مجموعة، وبالتالي يفضلون التمايز عن عمد على حساب وحدة الجنس البشري.
وكأن العلمانية في أوروبا تتعارض مع حقوق الإنسان، وتُهمّش الأقليات الدينية، فإدريس الجزائري، سفير الجزائر السابق لدى الأمم المتحدة، يقترح علمانية أخرى للأوروبيين: “العلمانية تحتوي الجميع، مهتمة باحترام حقوق الإنسان وليست علمانوية مُهَمِّشَة”.
تكاد الأمم المتحدة تكون من دعاة “التعددية الثقافية” التي تخلطها، بوعي أو بغير وعي، بـ”التنوع الثقافي”. الأولى تتلخص في ذلك التوجه السياسي الأيديولوجي المفروض بضغط من الوافدين الجدد والأحزاب التي تبتغي استغلالهم بعدما فقدت مؤيديها من السكان الأصليين. أما الثاني فهو إثراء طبيعي للثقافة المحلية. فلا نتيجة للتعددية الثقافية التي يدافع عنها المتدينون سوى بَلقَنَة المجتمع. وتلك هي الفكرة الخاطئة عن العلمانية التي يروجها مناهضوها والتي تتبناها، مع الأسف، الهيئة الأممية.
ألم يحن الوقت لتحميل الهيئة الدولية الرئيسية المسؤولية عن هذا الازدراء المتوالي للعلمانية؟ أليس من واجبها العمل على احترام العلمانية في كل العالم؟ أليس من واجب جميع الديمقراطيين في العالم أن يعيدوا التأكيد للأمم المتحدة على أهمية الفصل بين الدين والدولة باعتباره الضمان الوحيد لحرية الضمير الحقيقية؟ هل سيسمحون للأصوليين بأن تكون لهم الكلمة الأخيرة بإغلاق النقاش باسم الحرية الدينية والثقافية، ومكافحة الاستعمار، ومكافحة العنصرية، ومكافحة الإسلاموفوبيا؟