مصر

العلاقة السياسية بين مصر وإسرائيل.. إلى أين؟ 

من الواضح أن العمليات العسكرية المدمرة وتجريف عناصر الحياة في غزة لهما أهداف في الحسابات الإسرائيلية، قوامها إنهاء ظاهرة حماس والمقاومة في الأراضي المحتلة، وقطع شريان معبر رفح الذي يصل مصر بالقطاع.

توترت العلاقات السياسية بين القاهرة وتل أبيب، وأخذت منحى تصاعديا من جانب الأولى ردا على استفزازات قامت بها الثانية في المنطقة الحدودية بين قطاع غزة ومصر، ولوح مسؤولون كبار بأن هذه التصرفات تلحق أذى باتفاقية السلام الموقعة بين البلدين منذ نحو خمسة وأربعين عاما، وتمنع قيام الجيش الإسرائيلي بعمليات عسكرية في المنطقة (د) التي يقع في نطاقها محور فيلادلفيا.

تعاملت القاهرة مع العمليات العسكرية في مدينة رفح بجنوب غزة في إطار ضوابط اتفاقية السلام، مؤكدة على لسان وزير الخارجية سامح شكري أن السلام خيار إستراتيجي، وهي نظرة “ستاتيكية”، حيث هناك أشياء كثيرة قد تغيرت في المنطقة بعد دخول جهات لا تحمل صفات الدولة، لكنها تتمتع بمقوماتها وإمكانياتها.

تعتقد إسرائيل أن هذه الجهات هي التي جرتها إلى أزمات أعمق، وإذا أخفقت القوى الإقليمية والدولية في التعامل معها، فاللاعبون الجدد يمكنهم تغيير شكل المنطقة بصورة درامية، من واقع ما يملكونه من أسلحة ومعدات عسكرية متقدمة.

تداخلت مع حرب غزة جماعات عربية مسلحة في كل من العراق واليمن وسوريا، وحزب الله اللبناني، وهو تطور مهم في الصراع العربي مع إسرائيل يختلف عن النمط السابق، ولذلك لم يعد الأمر بين مصر وإسرائيل محصورا في مشكلة تمكن معالجتها ضمن نطاق محدود، أو وفقا لتفاهمات أمنية معروفة، وتزعم تل أبيب أن هذا التحول دفعها للاقتراب من حدود مصر من جهة غزة.

برزت حركة حماس كقوة ربما تعرض اتفاق السلام لهزة كبيرة، ما لم يتم التصرف بحسم، حسب رؤية إسرائيل، بينما ترى مصر أن فتح أفق لتسوية القضية الفلسطينية هو الأداة الرئيسية لتفويت الفرصة على تحركات وصعود قوى إقليمية اشتبكت في حرب غزة، فهي أشباه دول يتعاظم دورها على الصراعات وتزداد لديها ولدى عناصرها عوامل التأثير مع كل تغول لإسرائيل في القطاع ورضوخ سياسييها لمتطرفيها.

رفعت الحرب الإسرائيلية على غزة الغطاء عن المحدد “الميليشياوي” مع أن ملامحه ظهرت منذ سنوات في أماكن أخرى، ما جعل عملية تعاطي تل أبيب مع مخاوف القاهرة أقل، رغم أن الأولى لا تخفي حرصها على استمرار السلام مع مصر، وربما تفوقها تمسكا به، إذ تعلم حجم المتاعب التي تتمخض عن أي مواجهة عسكرية مع مصر، فإذا كانت حركة مقاومة مثل حماس تملك نسبة ضئيلة من قدرات الجيوش النظامية كبّدت إسرائيل خسائر كبيرة، فالموقف أكثر فداحة إذا حوت السيناريوهات المصرية المفتوحة التي تمت الإشارة إليها على لسان مسؤولين خيارا عسكريا.

يصعب أن يصل الطرفان إلى هذه المرحلة مع إعلان كليْهما تمسكه بالسلام، ويصعب أن تسمح الولايات المتحدة بتمرير أي من الخيارات الخشنة التي تقلب الطاولة على مصالحها في المنطقة، فالسلام الذي حققته بين البلدين منذ عقود أحد منجزاتها الكبرى التي تفاخر بها وتسعى لتعميمه بطرق أخرى مع دول عربية ليست على خط المواجهة.

بدد اتصال هاتفي جرى بين وزيري الدفاع في كل من مصر والولايات المتحدة جانبا من هواجس انفراط عقد السلام بين القاهرة وتل أبيب، حيث قدم الوزير الأميركي تطمينات للقاهرة تخفف من توجهها نحو المزيد من الخطوات التصعيدية التي تنطوي على رسائل سياسية، مفادها أن القاهرة ضجت بما تقوم به إسرائيل في جنوب القطاع، خصوصا بعد توقف مرور المساعدات من خلال معبر رفح في ظل استمرار السيطرة الإسرائيلية، والتي تقوض دور مصر في عملية دخول المساعدات الإنسانية إذا تم تدشين الممر البحري بعد أيام، والذي قامت الولايات المتحدة بتشييده.

أعلنت القيادة المصرية موقفها من حرب غزة بوضوح، وقطعت الطريق على مخطط التوطين، لكنها وقعت في بعض الفخاخ التي نصبتها إسرائيل، ربما بتنسيق خفي مع واشنطن، دفعت القاهرة للتخلي عن صبرها السياسي واللجوء إلى التصعيد عبر تبني خطاب أكثر حدة، يكشف عن انزعاج بالغ مما تقوم به قوات الاحتلال في مدينة رفح.

الواضح أنّ القاهرة في حاجة إلى أنْ تجري قراءة إستراتيجية جديدة للأوضاع الفلسطينية وفهم التقديرات غير المعلنة لبعض القوى الدولية والتعرف على التصورات الأميركية الخفية للمنطقة وموقع إسرائيل فيها بالضبط.

يبدو أن مصر في حاجة إلى وضع عقيدة سياسية جديدة بموجب ما يعتمل في المنطقة من تحولات، فالتطورات الراهنة قد تؤدي إلى نتائج غير تقليدية، تفرض ضبط العلاقات الإقليمية بإحكام لتثبيت قواعد السلام قبل أن تشتد العواصف وتقتلعه، فإسرائيل بعد طوفان الأقصى والحرب على غزة لن تكون هي تلك التي عرفتها مصر من قبل.

هذه واحدة من المحكات المهمة التي تواجهها القاهرة في مسيرة العلاقة المضطربة مع إسرائيل، وانتقالها من الحرب إلى السلام، فالمحددات الرمادية التي سادت الفترة الماضية وتعايش معها كل طرف بالطريقة التي تتواءم مع مصالحه لن تستمر طويلا.

ولذلك تقوم إسرائيل على وقع حرب غزة بترتيب أوراقها لما سوف يكون عليه وضعها في المستقبل، وهو ما يجب أن تقوم به مصر، أو قامت به سرا، لتعظيم دورها.

من الواضح أن العمليات العسكرية المدمرة وتجريف عناصر الحياة في غزة لهما أهداف في الحسابات الإسرائيلية، قوامها إنهاء ظاهرة حماس والمقاومة في الأراضي المحتلة، وقطع شريان معبر رفح الذي يصل مصر بالقطاع، فبعد تفشيل سيناريو التهجير من غزة إلى سيناء، تبحث إسرائيل عن بدائل تمكنها من فرض هيمنتها على غزة، مستفيدة من الارتباك السياسي الأميركي، ومرونة المجتمع الدولي في التعامل معها، على الرغم من الإدانات الواسعة لتصرفاتها في مجال الإبادة الجماعية.

تحتاج مصر إلى وضع تصورات تتواءم مع المعطيات التي سوف تفرزها نتائج الحرب، فقد نجحت إسرائيل في تكسير الكثير من الثوابت التي شيدت القاهرة دورها على أساسها، وأبرزها ما رسخ في السرديات السياسية العربية من أنه لا حرب ولا سلام مع إسرائيل من دون مصر، حيث تمكنت تل أبيب من هدم شق الحرب مرات عدة في السنوات الماضية، وتسعى نحو هدم شق السلام مع دول عربية مهمة برعاية أميركية، يمكن أن تبدي استعدادا لتطويره بعيدا عن مصر.

أجّلت حرب غزة قطار التطبيع العربي مع إسرائيل، لكنها لم تلغه، ولا تزال الولايات المتحدة تعمل على تصويب مساره في خضم الحرب الراهنة، وغير معلوم موقف مصر من الطريق الذي سوف يسلكه أمنيا وسياسيا واقتصاديا، في وقت تعتقد فيه واشنطن أن عقد صفقة سلام بين إسرائيل والسعودية يكفي لتغيير وجه المنطقة، وهو ما يمكن أن تتفاعل القاهرة معه أو تكبحه، قبل تقزيم دورها المحوري في القضية الفلسطينية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى