الجزائر

العلاقات الجزائرية الفرنسية: لماذا لم ولن تكن طبيعية أبداً؟

رد فعل الجزائر الصارم هو دليل على أن الجزائر اليوم ترفض الاستفزاز والابتزاز، ولديها أوراق ضاغطة وازنة مثل ورقة الغاز ووجود جالية واسعة وواعية ورائدة على التراب الفرنسي رغم تشتتها الأيديولوجي وأحيانا العرقي والإثني

قد يُدفع هذه المرة بالعلاقات غير الطبيعية بين الجزائر وباريس من الانتقال لإدارة أزمة معادلة التوتر الدائم إلى القطيعة الحتمية. هذه المرة كان سبب توتر العلاقات بين البلدين ما وقع في فترة هدنة أولمبية فرضها الرئيس الفرنسي على المعارضة اليسارية في فرنسا — فإذا به يفجر أزمة دبلوماسية جديدة مع الجزائر وكأن الرئيس إيمانويل ماكرون لم يكتف بما لديه من أزمات في الشأن الداخلي: وعلى رأسها أزمة سياسية (حكومة مستقيلة مكلفة بتسيير أعمال إلى غاية تعيين رئيس للحكومة بعد انتهاء أولمبياد باريس 2024)، من نقد جماهيري محلي ودولي واسع بعد حفل العار الذي حدث في افتتاحية النسخة الثالثة والثلاثين للأولمبياد.

منذ وصول الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى سدة الحكم في الجزائر عام 2019 غيّرت فترة حكم الرئيس الجزائري طبيعة ومسار العلاقات الجزائرية-الفرنسية التي كانت باريس عرّاب الأوليغارشية ومنظومة فترة حكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة لعقدين من الزمن 1999-2019. انتظر الرئيس الجزائري المنتخب الجديد عام 2019 من نظيره الفرنسي الرئيس إيمانويل ماكرون أكثر من أسبوعين لتلقي مكالمة تهنئة، كعادة باريس، وهي من السابقين الأوائل لتهنئة الرئيس الجديد في الجزائر ساعات قبل إعلان التلفزيون الرسمي عن نتائج الانتخابات.

عواقب تصحر دبلوماسي 

ها هي قضية الصحراء تحل في وقت كان فيه المتابعون يتفاءلون في طي صفحة التوتر والأزمات وفتح صفحة الانفراج في العلاقات الجزائرية-الفرنسية بعد نشاط دبلوماسي مكثف في النصف الثاني لعام 2022 بين مسؤولي البلدين، حيث تكلل هذا النشاط  بزيارة الرئيس إيمانويل ماكرون للجزائر، تلقت هذه الزيارة أصداء إيجابية رغم الحذر من الجانب الجزائري، وكان محتملا أن يقوم الرئيس الجزائري في الخريف القادم بزيارة دولة رسمية لفرنسا بعد تأجيل مرتين لهذه الزيارة التي يبدو أنها لم تحصل (علما أن الرئيس عبد المجيد تبون مرشح لفترة ثانية في الانتخابات الرئاسية ليوم السابع سبتمبر/أيلول القادم)، كما عرف هذا النشاط سياقا إقليميا ودوليا متوترا في ظل الحرب الروسية-الأوكرانية والحرب الهستيرية في فلسطين المحتلة على الشعب الفلسطيني من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي.

في حين تعاني فيه فرنسا كسراً دبلوماسياً وعسكرياً في المنطقة المغاربية والساحل الأفريقي. قارن المحللون زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون للجزائر في صيف 2022 بزيارة الرئيس جيسكار ديستان للجزائر عام 1975 من شدة الاحتراز والرمزية، تبعتها زيارة رئيسة الحكومة السابقة إليزابيت بورن في خريف 2022 — ناهيك عن زيارة وزير الداخلية المستقيل الفرنسي جيرالد دارمانين للجزائر، وبعدها زيارة الفريق أول سعيد شنقريحة إلى باريس في شهر كانون الثاني / يناير لهذا العام حيث تم استقباله من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه، وكانت هذه الزيارة أول زيارة رسمية لقائد جيش جزائري إلى فرنسا منذ 17 عاماً وذلك تلبية لدعوة من نظيره الفرنسي تييري بوركا. وكان القائدان الجزائري والفرنسي قد التقيا خلال زيارة ماكرون إلى الجزائر في أغسطس / آب 2022 والتي أعادت العلاقات بين البلدين إلى مسارها الطبيعي.

ظنّ المتابعون أن تلك الزيارات المتبادلة سوف تجسّد فعلاً ما تم الاتفاق عليه في إعلان الجزائر المشترك من أجل شراكة متجددة بين الجزائر وفرنسا، الذي نصّ على تعزيز التبادلات رفيعة المستوى بين البلدين وفق عقيدة جديدة قوامها الندية، احترام سيادة الدولتين، والنأي عن سلوكيات التدخل في الشؤون الداخلية. واستئناف على إثر ذلك العلاقات القنصلية بين الجزائر وفرنسا في 12 كانون الأول / ديسمبر 2022، وعاد منح التأشيرات إلى المواطنين الجزائريين إلى معدّله الطبيعي (كان قد خُفّض بنسبة 50% في أيلول/سبتمبر 2021)، فضلا عن انعقاد اجتماعات ولقاءات بين رجال الأعمال والمستثمرين من البلدين، بالأخصّ في مجال الطاقة والتعليم والرياضة، وبرمجة لقاءات أخرى في المستقبل ضمن ما يعرف باللجنة الجزائرية-الفرنسية الاقتصادية المختلطة، والحديث من جديد حول ملف الذاكرة والذي يعتبر أحد أهم الموضوعات التي ما زالت تحول دون تطوير العلاقات الجزائرية-الفرنسية.

فلا تزال الجزائر تصرّ على اعتراف فرنسا بالمجازر التي ارتكبها المستعمر الفرنسي أثناء الاحتلال، رغم ليونة الموقف الفرنسي وخصوصا الرئيس إيمانويل ماكرون الذي اعترف بقيام فرنسا بجرائم حرب إبان حرب التحرير الكبرى عام 1954-1962 وتسليم أول دفعة من جماجم ورفات رموز المقاومة الشعبية ضد الاستعمار الفرنسي عام 2020.

ماذا يريد الرئيس إيمانويل ماكرون؟ 

يتساءل المتتبع للشأن الدبلوماسي والاستخباراتي في الجزائر وفرنسا، لماذا تحول النشاط الدبلوماسي إلى حرب إعلامية؟ ومن هي الجهة وراء قرار الرئيس إيمانويل ماكرون باتخاذ باريس قرارا بتعزيز دعمها لخطة الرباط بشأن الصحراء الغربية؟ بالرغم من أن باريس تنقض دورها في مجلس الأمن للأمم المتحدة في ملف قضية الصحراء الغربية، في رسالة موجهة إلى الملك محمد السادس، بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لعيد العرش، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن مخطط المغرب للحكم الذاتي لهذه المنطقة هو الأساس الوحيد لتحقيق حل سياسي عادل ودائم ومتفاوض عليه. هذا القرار يشبه قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مرشح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية المقبلة في يوم السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني القادم وقرار رئيس الحكومة الإسباني بيدرو سانشيز في صيف 2022 مما دفع بالسلطات الجزائرية إلى سحب سفيرها وقطع علاقاتها الدبلوماسية مع مدريد، قطيعة دامت عاماً ونصف، بعد أزمة حظر التعاون مع الحكومة الإسبانية وتعليق معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون مع إسبانيا، بعد تغيير مدريد موقفها من قضية الصحراء الغربية.

جاء رد الجزائر على لسان السيد أحمد عطاف، وزير الخارجية الجزائري، يوم الأربعاء 31 يوليو/ تموز 2024، للحديث عن قرار سحب بلاده سفيرها من باريس، بعد الدعم الفرنسي الصريح للسيادة المغربية على الصحراء، معتبرا الخطوة تعبيرا عن الاستنكار والاستياء من الموقف الفرنسي، ومؤكدا أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بدأ الإعداد للخطوة الأخيرة قبل مدة تبعاً لما أطلق عليه الرئيس الجزائري قبل شهر ونصف، وتم ذلك خلال شهر يونيو/حزيران الماضي خلال قمة مجموعة السبع في إيطاليا.

ونقل السيد أحمد عطاف تفاصيل الموقف الرافض للرئيس عبد المجيد تبون، والتي قدمها للرئيس إيمانويل ماكرون، مؤكدا فيها أن الموقف الفرنسي الجديد يركز على حصرية خطة الحكم الذاتي كقاعدة لحل النزاع القائم في الصحراء وأنه يعترف اعترافا صريحا بمغربية الصحراء.

لماذا في هذا التوقيت بالذات؟ لم تتردد السلطات الجزائرية في التحرك السريع، حيث استدعت سفيرها في باريس للتشاور.

للإجابة عن هذا السؤال، هناك عوامل ذاتية وأخرى موضوعية تدفع المتابعين للعلاقات الجزائرية-الفرنسية والتي لم تكن أبداً “طبيعية” حيث تحكمها مبادئ وأعراف الدبلوماسية التقليدية.

ففرنسا لم تهضم أبداً هزيمتها السياسية والعسكرية وانهيار الإمبراطورية الفرنسية في جبال الأوراس والونشريس والأطلس البليدي واعترافها باستقلال الجزائر عام 1962، وبالتالي فرنسا مستمرة بكل إصرار في حالة نكران ومعها النخب والإعلام العنصري والسياسيون من أحزاب اليمين واليمين المتطرف وجماعة الحنين للجزائر الفرنسية واللوبي الإسرائيلي المعادي للجزائر بسبب مواقفها تجاه القضايا العادلة كالقضية الفلسطينية وقضية الصحراء.

يا فرنسا قد مضى وقت العتاب! 

هذه الجماعة يمثلها النائب البرلماني من حزب اليمين المتطرف، التجمع الوطني (حزب آل لوبان)، العضو السابق في لجنة الصداقة الجزائرية-الفرنسية، جوزي غونزاليس (المحسوب على تيار جماعة حنين الجزائر-فرنسية) كون هذا الشخص ولد وعاش بمدينة وهران، أي ما يعرف بالقدامى السوداء، لم يتقبل أبدا هو وتياره العنصري منطق الندية الذي وضعته الجزائر كشرط في تعاملها مع فرنسا من جهة، وانعدام عامل الثقة من قبل التيار الوطني الثوري في الجزائر تجاه فرنسا بسبب تعنت وغطرسة الجهات السابق ذكرها من جهة ثانية.

وجود البرلماني العنصري الحاقد على الجزائر المسلمة المستقلة في هذه اللجنة مثلاً قد يصعب من تفكيك لغز قرار الرئيس إيمانويل ماكرون حصر خطة الحكم الذاتي كقاعدة لحل النزاع القائم في الصحراء الغربية والتي هي إلا عنصراً آخر داخل المعادلة. رغم أن هذه المرة أتى الرد الجزائري بلغة قوية قد تجعل المتتبع للعلاقات الجزائرية-الفرنسية يتحدث عن قرار الجزائر عام 1967 مع الولايات المتحدة بعد إعلان الرئيس هواري بومدين قطع العلاقات الدبلوماسية معها بسبب دعمها للاحتلال الإسرائيلي في حرب 5 حزيران / يونيو 1967. حيث دامت القطيعة سبع سنوات واستؤنفت العلاقات بين البلدين عام 1974 من جديد.

ولفهم العقيدة الجديدة للدبلوماسية الجزائرية بين المتغير والثابت في زمن التحولات الإقليمية والدولية، بعد ما شهدت الدبلوماسية الجزائرية فترة فتور وتراجع على الساحتين الإقليمية والدولية لأكثر من عقدين في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، مما جعل المتتبع للسياسة الخارجية خصوصاً والشأن السياسي الداخلي يتساءل عن هذا الركود الدبلوماسي. حيث يبدو أن الدبلوماسية الجزائرية اتخذت نهجًا جديدًا ومحددات جديدة قابلة للتكيف مع ضرورات المنطقة والدفاع عن مصالحها وأمنها القومي في مرحلة ما بعد موجة الثورات العربية الثانية في عام 2019.

على عكس التوقعات التي رجّحت مزيداً من التهدئة وابتعادها عن منطق الثنائية الذي ساد العلاقات بين الجزائر وباريس إثر أزمة تشرين الأول / أكتوبر 2021 وأزمة حادثة بوراوي في فصل شتاء عام 2023 يتجه منحى العلاقات بين الجزائر وفرنسا نحو التصعيد. وفي هذا السياق، يجب ألا نغفل أن الأزمة الجديدة التي أشعلهاالرئيس الفرنسي بانعكاساتها على تطور العلاقات بين الجزائر وباريس جاءت مباشرة بعد أزمة سياسية تعيشها فرنسا منذ إعلان نتائج الانتخابات المبكرة في السابع من شهر حزيران / يونيو الماضي والتي يبدو أن مخرجاتها قد صبّت في صالح الجزائر ومصالحها الجيوسياسية في المنطقة المغاربية وفي منطقة الساحل الأفريقي المتقلب، وضربت بعمق المصالح الفرنسية في الجزائر والتعاون الاقتصادي في مجال النفط والغاز والتعاون العسكري والاستخباراتي.

وإن كان خبر تغيير موقف باريس من قضية الصحراء الغربية بالرغم من أنها قضية مدرجة في جدول أعمال مجلس الأمن للأمم المتحدة وهي قضية تصفية استعمار، فإن قرار الرئيس الفرنسي بتغيير موقف بلاده تجاه مسألة حساسة جداً لدى الطرف الجزائري يظل غير ذي أهمية.

إن جزائر اليوم يريدها شعبها وقيادتها قوية مستقلة، وإذا كان سلوك الجزائر قد تغير وأصبح يزعج الدولة الفرنسية واللوبيات الفرنسية المعادية للجزائر؛ فرنسا التي تعيش اليوم أزمة متعددة الأبعاد: سياسية، اقتصادية، جيوسياسية وهوياتية.

أخيرا، إنّ رد فعل الجزائر الصارم هو دليل على أن الجزائر اليوم ترفض الاستفزاز والابتزاز، ولديها أوراق ضاغطة وازنة مثل ورقة الغاز ووجود جالية واسعة وواعية ورائدة على التراب الفرنسي رغم تشتتها الأيديولوجي وأحيانا العرقي والإثني، وموضوع الهجرة غير الشرعية وعدم التعاون في موضوع إلزامية مغادرة التراب الفرنسي للمقيمين غير الشرعيين — بالتالي هي قادرة على أن تفرض على اللوبي المعادي وإعلامه احترام استقلالية الجزائر في قرارها، وعلى فرنسا أن تصحح مسارها وتعترف بأن الجزائر اليوم، ليست جمهورية موز أو بورتوريكو البحر المتوسط، بل هي دولة ذات سيادة — ومن حق الجزائر أن تمضي في حماية مصالحها الوطنية وأمنها القومي باستخدام الدبلوماسية النشطة التي تسمح لها بأن تكون بلداً فاعلاً ومؤثراً على الساحة الإقليمية والدولية من خلال سياستها الخارجية المتوازنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى