توجه تل أبيب منذ سنوات سهامها العسكرية والسياسية التصعيدية باتجاه الداخل السوري. لم تتوقف عن ذلك بعد رحيل نظام الأسد. خطورة ما تقوم به لا تعني السوريين وحدهم، فهو مرتبط بلعبة الكر والفر الإقليمي الإسرائيلي على أكثر من جبهة.
إلى جانب عمليات القصف الجوي المتكرر للعديد من المناطق السورية، كان هناك التوغل العسكري باتجاه المنطقة العازلة الحدودية والسيطرة على قمة جبل الشيخ، وبناء قواعد عسكرية، وشق طرقات، وتجهيز بنى تحتية في المناطق التي تدخلها. ترامب يحتفي بنتنياهو على طريقته ولا يهمه الالتفات نحو ما تفعله إسرائيل، فالحسابات الإقليمية أكبر وأهم من ذلك.
ما يقلق إسرائيل ويزعجها هو احتمال نجاح أنقرة من جديد في تفعيل استراتيجية التحرك نحو الشرق والجنوب، والذي ستكون ارتداداتها في الغرب والشمال: الانفتاح التركي المتزايد على العراق وسوريا، خصوصاً بعد سقوط نظام الأسد، يتعارض مع مصالح وأهداف تل أبيب وحساباتها في البلدين. السبب هو خروج أنقرة أقوى على الساحتين الغربية في شرق المتوسط والشمالية مع أوروبا. ما الذي يعنيه بالنسبة لنتنياهو أن يقول الرئيس التركي أردوغان: “إن فرص الاتحاد الأوروبي ومفتاح خروجه من أزماته هو بيد تركيا”؟
تسببت “المساهمة” التركية في إسقاط نظام بشار الأسد بارتدادات محلية وإقليمية، عنوانها إعادة خلط الأوراق في المشهد السوري وارتباطه بالحسابات والتوازنات الإقليمية. تشعر تل أبيب أنها ستكون بين المتضررين هناك أيضاً، لذلك تحركت باكراً للتذكير بمصالحها عبر توغل عسكري واستهداف جوي متكرر للبنى العسكرية والمطارات والموانئ الحربية.
تل أبيب لن تكتفي بموقف “الإطاحة برئيس النظام المخلوع بشار الأسد لم تكن في صالح إسرائيل”، بل تبرعت بلعب دور الحامي والمحامي المدافع عن بعض الأقليات في سوريا. طالبت بإخلاء جنوبي سوريا من القوات العسكرية النظامية الجديدة واستهداف مواقعها، وأعلنت أن “إسرائيل لن تتسامح مع أي تهديد لمجتمع الدروز في جنوب سوريا”. وأن قوات الجيش الإسرائيلي ستبقى في قمة جبل حرمون وفي المنطقة العازلة لفترة غير محدودة “لحماية مستوطناتنا وإحباط أي تهديد” وعدم السماح للجيش السوري الجديد بالدخول إلى منطقة جنوب دمشق. كلام نتنياهو يتطابق مع “الوقوف إلى جانب مطالب أكراد سوريا وحقوقهم”. بدأت من الشرق ثم انتقلت إلى الجنوب، ولن يكون هناك أي استغراب إذا ما قررت دمج الساحل السوري في حساباتها.
تندد العديد من العواصم العربية والإقليمية بسياسة وأساليب رئيس الوزراء الإسرائيلي في سوريا لناحية التوغل والغارات الجوية التي تستهدف العاصمة دمشق. لكن الموقف الأميركي يذهب باتجاه آخر، متجاهلاً ما تقوم به تل أبيب وما تدعو إليه بشكل استفزازي علني. التقاء مصالح إسرائيل وأميركا في سوريا مرتبط بالمتغيرات الداخلية والإقليمية التي قد تمنحهما فرصة استراتيجية أقوى هناك، بعد سقوط نظام الأسد وانهيار الجدار الإيراني، واستعداد موسكو للدخول في لعبة تفاهمات متعددة الأهداف والجوانب.
نتنياهو هو الذي يوسع من رقعة اعتداءاته، ويخرق الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ولا يحترم قرارات مجلس الأمن الدولي في جنوبي سوريا، ويعلن أنه لن ينسحب من المناطق التي دخلها، ويفعل ذلك على مرأى ومسمع واشنطن.
يريد نتنياهو أمرين في سوريا، وهو يعتقد أنّه إذا تمكن من تحقيقهما فستكون ارتدادات ذلك السياسية والشعبية والانتخابية كبيرة لصالحه في الداخل الإسرائيلي: فرض تل أبيب على المشهد السوري بمتغيراته السياسية والأمنية والاقتصادية الجديدة، وإضعاف النفوذ التركي المتزايد هناك على حساب تراجع التمدد الروسي والإيراني.
هو يحاول من أجل الوصول إلى ذلك اللجوء إلى الأساليب الإسرائيلية المعروفة في حالات مشابهة: كسب شركاء وحلفاء محليين على الأرض، إبقاء صورة المشهد مهزوزة ومنفتحة على أكثر من سيناريو تصعيدي، اللجوء إلى القوة العسكرية الإسرائيلية عند الضرورة، والاحتماء بالموقف الأميركي الداعم عندما تتزايد الضغوطات الإقليمية والغربية على إسرائيل. تصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو حول أن “الحكام الجدد في سوريا لا يمنحوننا الطمأنينة، وأن إيران وروسيا ستعودان لملء الفراغ في سوريا إذا لم تقم واشنطن بالاستفادة من هذه الفرص”، تعني أن إدارة ترامب بين خيارين أيضاً: إما العمل على إقناع أردوغان بالتخلي عن مواصلة توتير العلاقة مع تل أبيب في سوريا مقابل دفع إسرائيل للانسحاب من المناطق التي دخلتها في مناطق فض الاشتباك، والبحث عن فرص الاستفادة من المتغيرات السياسية والأمنية في المشهد السوري، وإما إطلاق يد تل أبيب حتى النهاية في سوريا، رغم كل الانتقادات والتنديدات من قبل حلفاء وشركاء واشنطن في المنطقة والغرب.
من هنا تبرز القناعة الإسرائيلية التي تقول إن مصالح تل أبيب ستكون عرضة للخطر عند حدوث أي تقارب أو تفاهم تركي – أميركي في سوريا بسبب منظومة العلاقات التي بنتها أنقرة في الإقليم مؤخراً. وأن قطع الطريق على أي تقارب تركي – أميركي في سوريا لا بد أن يكون بين أولوياتها، خصوصاً وأن الحديث يدور في الداخل التركي عن احتمال تحول المشهد السوري إلى فرصة للتقريب بين واشنطن وأنقرة في التعامل مع ملفات وأزمات إقليمية فيها كثير من المقايضات والصفقات.
التحرك التركي الإقليمي الأخير باتجاه تفعيل منصة رباعية تضم إلى جانب تركيا سوريا والعراق والأردن قد يكون بين أهدافه المعلنة، تعزيز التعاون الأمني ومحاربة فلول تنظيم الدولة وحماية الحدود. لكن للتحولات الإقليمية المرتبطة بالمشهد السوري حصتها الكبيرة كذلك. فتطورات الأوضاع في سوريا تستدعي مثل هذا التنسيق في مواجهة العربدة الإسرائيلية التي تتمدد وتتوسع في المنطقة.
هدف أنقرة هنا هو سحب ورقة داعش من يد التحالف الغربي وشريكه المحلي في سوريا، ودعم سيطرة الحكومة السورية الجديدة على كامل الأراضي السورية وتسهيل وصولها إلى شرق الفرات، وهو ما تصر تل أبيب على الحؤول دونه. المواجهة في سوريا هي تركية – إسرائيلية أيضاً وأسبابها أكثر من أن تعد أو تحصى. من قد يسهل لنتنياهو أخذ ما يريده في عرقلة الحراك التركي الرباعي الجديد باتجاه بغداد وعمان ودمشق، قد يكون اللاعب الإيراني الذي يدرك أن الأضرار التي ستلحق بمصالحه في سوريا والمنطقة لن تقل عن خسائر إسرائيل. أسباب ودوافع تقاطع المصالح الإسرائيلية – الإيرانية في سوريا والمنطقة كثيرة والبحث جار عن قوة دفع تسهل هذا التواصل الثنائي. هل هناك علاقة بين إرجاء تفعيل الحوار السوري – العراقي الجديد وبين تضرر مصالح تل أبيب وطهران؟
ترى إسرائيل أنه بقدر ما يحق للآخرين التدخل في شؤون سوريا اليوم فمن حقها هي الأخرى الدفاع عن مصالحها وحساباتها الإقليمية هناك. المهم الآن هو أن تستفيد القيادة السياسية الجديدة في دمشق من تجارب وحالات كثيرة مشابهة في المنطقة. هي قد لا تستطيع اليوم الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل للدفاع عن أراضيها، وقد لا يكون بمقدورها الحؤول دون وقوع المواجهة الإقليمية الحاصلة حول سوريا، لكنها تستطيع إلزام الحلفاء والشركاء والأصدقاء بحسم مواقفهم في مساعدتها على بناء الدولة الجديدة ومتطلباتها والتي يتقدمها ردع تل أبيب وإيقافها عند حدها. من يريد أن يدعم الشعب السوري اليوم عليه أن يأخذ بعين الاعتبار أن مواجهة المخطط الإسرائيلي في سوريا لا تقل أهمية وقيمة عن مشاريع إعادة الإعمار وتجهيز البنى التحتية وإنشاء جيش سوري وطني جديد، وأن مفاتيح ذلك تمر عبر تسريع عملية الحوار السوري – السوري والمصالحة الوطنية وإنهاء الانقسامات الداخلية وتأمين الاستقرار الأمني.