العراق

العراق بين لغمين… “الحشد الشعبي” و”داعش”

الحديث عن اختراع "داعش" له ما يسنده واقعياً. كان ضرورياً بالنسبة إلى حكومة المالكي أن يتحول العراقيون السنّة إلى "دواعش"، لكن الضروري أكثر كان يكمن في أن تنتقل الميليشيات من فضائها غير القانوني إلى ارتداء ثياب حكومية

عاد تنظيم “داعش” إلى الظهور في العراق. ففي عملية استهدفت ثكنة عسكرية تقع بين ديالى وصلاح الدين، قام أفراد من التنظيم بقتل عدد من الجنود العراقيين من بينهم ضابط كبير برتبة عقيد. وإذا كان التنظيم قد اعتمد على عنصر المباغتة، فإن أجهزة الاستخبارات العسكرية أثبتت فشلها في تتبعه ورصد حركاته ومن ثم منعه من العودة إلى عملياته الإجرامية. ولكن ذلك شيء والإعلان عن نهاية التنظيم شيء آخر. لم تقع القوات الأميركية التي تقود تحالفاً دولياً لمحاربة الإرهاب في فخ الحديث عن القضاء النهائي على التنظيم الإرهابي، ذلك لأن وجودها على الأراضي العراقية مرتبط بتلك المهمة التي يجب ألا تنتهي. القوات العراقية هي التي استرخت بعد طول توتر لم يكن نافعاً، ذلك لأن هناك قوة ثالثة، كانت قد نذرت نفسها لحماية المذهب أولاً والحفاظ على دماء العراقيين ثانياً.
الحشد الشعبي هو تلك القوة. كل المعطيات تؤكد أن الحشد الشعبي عاش معارك خاطئة قياساً للهدفين. لقد حارب في مناطق لم يكن فيها المذهب مهدداً وأدت حروبه إلى التضحية بالعراقيين مجاناً. كان هناك سباق بين الفريقين، “داعش” والحشد لقتل مدنيين أبرياء، لم يكن ذنبهم سوى أنهم يقيمون في المناطق التي يتنازعان النفوذ عليها. وكما أثبتت التجربة فإن المدن التي تم تحريرها من احتلال “داعش” صارت كلياً أو جزئياً من ممتلكات الحشد الشعبي. بمعنى أن هناك مناطق سبق لـ”داعش” أن هجّر سكانها، غير أنهم حُرموا من العودة إليها وقد أغلقها الحشد في وجوههم بعد تحريرها.
المحرومون قاعدة شعبية لـ”داعش”
تعترف وزارة الهجرة والمهجرين العراقية بأن هناك أكثر من مليون نازح عراقي يقيمون في الخيام وهم محرومون من العودة إلى بيوتهم التي لم تعد تقع في مناطق خطرة. كان الحشد الشعبي صريحاً في مسألة المدن التي صارت بإيعاز من إيران جزءاً من ممتلكاته: “انسوها”. ولكن ما مصير سكانها؟ لا أحد في إمكانه أن يفكر في منسوب المواطنة الذي انخفض لدى أولئك المحرومين من حقهم في وطنهم في مستواه الأدنى وهو حق العيش على أرضه. ليست وزارة الهجرة والمهجرين معنية بتلك المسألة الحساسة. كما أن الحكومة لا تملك رأياً ما دامت المسألة قد دخلت في إطار الأمن القومي الإيراني. العراق كله يمكن أن يتحول إلى عنصر رئيس في ذلك الأمن. ولكن أشياء كثيرة يمكن أن تقع، من شأن وقوعها أن يقلق المنظومة الأمنية القلقة التي يمكن أن تُهشم بيسر في العراق.
واقعياً فإن ما خسره الحشد الشعبي كان أكثر مما ربحه. ربح الأرض ولكن العراق خسر شريحة مهمة من سكانه، هم أولئك الذين صاروا مجبرين جزءاً من القاعدة الشعبية لـ”داعش”. حين تمكن مئات من أفراد التنظيم الإرهابي من إلحاق الهزيمة بالقوات العراقية عام 2014 واحتلال الموصل وما حولها كانت الأرض قد مهدت لحدث غير مسبوق من ذلك النوع. ففي السنوات التي سبقت الانتصار على “داعش” الذي بدا كما لو أنه جزء من مسرحية مفبركة، تعرض سكان المدن ذات الأغلبية السنية وفي مقدمتها الموصل لشتى صنوف العزل والتهميش والإذلال بسبب سياسات حكومة نوري المالكي. وهو ما دفع بالبسطاء من الناس إلى الترحيب بأي بديل، أياً كان نوعه.
عداء لكن بعلاقة تكاملية
إذا ما عدنا إلى ما هو متداول رسمياً، فإن ظهور “داعش” قوة احتلال على الأراضي العراقية هو ما استدعى تأسيس الحشد الشعبي بعدما أصدر المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني فتواه في الجهاد الكفائي. لكن ذلك جزء من الحقيقة وليس كلها. فبنية الحشد إنما تتألف من مجموعة الميليشيات الشيعية التي بدأت العمل المسلح على الأرض منذ سنة 2003. أي قبل أكثر من عشر سنوات من ظهور “داعش” من خلال تجميعها في إطار مؤسسة عسكرية موحدة تم إضفاء نوع من الصفة القانونية على وجودها. وإذا ما كانت فتوى السيستاني قد انطوت على الشعور بالخوف على الأضرحة الدينية المقدسة لدى الشيعة من إمكان أن يدنسها تنظيم “داعش”، فإن التنظيم الإرهابي كان قد اكتفى من أجل الوصول إلى حدود دولته باحتلال مناطق غرب العراق ذات الأغلبية السنية ليضمها إلى ولاية الموصل، بحسب تسميته. بمعنى أن “داعش” لم يأخذ في اعتباره المسألة الطائفية معياراً لقيام دولته بقدر ما استفاد منها في العثور على حاضنته. في المقابل، كانت تلك المسألة حاضرة في العقل السياسي الذي يقف وراء قيام الحشد الشعبي. لذلك فإن العداء بين الطرفين لا يغطي على العلاقة التكاملية بينهما. كل طرف منهما في حاجة إلى وجود الطرف الآخر للتلويح بضرورته، رغم أن الاثنين لا يمتان بصلة إلى النسيج الاجتماعي التاريخي العراقي. فالعراق عبر تاريخه كان بلد الملل والنحل، غير أن تاريخه القريب يشهد على أنه لم يكن ينام قلقاً في انتظار انفجار لغم الحرب الأهلية.
تبادل خدمات بين عدوين
وإذا ما عدنا إلى الأحداث التي سبقت ظهور “داعش” وتأسيس الحشد الشعبي، فسيكون في إمكاننا أن نمسك برأس الخيط الذي يقودنا إلى جوهر العقدة السياسية. يومها أطلقت حكومة نوري المالكي العنان للميليشيات في إذلال مواطني محافظات بعينها، وحين أعلنت تلك المحافظات نوعاً من العصيان ظهر تنظيم “داعش” ليحتوي ذلك العصيان وينحرف به عن مساره الوطني. لم يحدث ذلك بالصدفة. الحديث عن اختراع “داعش” له ما يسنده واقعياً. كان ضرورياً بالنسبة إلى حكومة المالكي أن يتحول العراقيون السنّة إلى “دواعش”، لكن الضروري أكثر كان يكمن في أن تنتقل الميليشيات من فضائها غير القانوني إلى ارتداء ثياب حكومية. بهذا المعنى كان تنظيم “داعش” مفيداً لكي يكرّس السلاح غير القانوني وجوده. ولأن مؤسسة الحشد الشعبي تظل بالنسبة للحكومة العراقية مرتبطة بفتوى السيستاني في الجهاد الكفائي، فإن ظهور “داعش” بين حين وآخر يشكل عاملاً ضاغطاً من أجل أن الاستمرار في تنفيذ تلك الفتوى. في بلد اعتاد أن يسير بين الألغام مثل العراق يبدو تبادل خدمات من ذلك النوع أمراً ممكناً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى