العراق بين سندان إيران ومطرقة تركيا
يبدو أنّ تقديمات تركيا إلى بغداد قد لا تكون مغرية بشكل كبير. إلا أنّها تمسّ عصب حاجة العراق الرسمية والشعبية. فقد رهنت أنقرة تجاوب حكومة العراق في موضوع حزب العمّال
الخطوة التي اتّخذتها حكومة العراق برئاسة محمد شياع السوداني بإعلان حزب العمّال الكردستاني (PKK)، بقيادة عبدالله أوجلان المعتقل في السجون تركيا، حزباً محظوراً في العراق… وإن كانت خطوة قد تثير الكثير من المخاوف والقلق لدى إيران، الجارة الشرقية للعراق. إلا أنّها تنسجم مع ما يقرّه الدستور حول علاقة العراق مع جيرانه. من عدم السماح لأيّ طرف باستخدام الأراضي العراقية لتهديد أمن واستقرار ومصالح دول الجوار.
هذا الالتزام أعلنته حكومة العراق خلال توقيع الاتفاقية الأمنيّة الاستراتيجية في نيسان العام الماضي. بين أمين المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران السابق علي شمخاني ومستشار الأمن الوطني قاسم الأعرجي. لكن خرقه الجانب الإيراني في أكثر من مناسبة. خاصة في الضربات الصاروخية في إقليم كردستان بذريعة وجود مقرّات تابعة لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي الموساد. ومقرّات لفصائل كردية إيرانية معارضة. الأمر الذي استفزّ بغداد التي ذهبت إلى تصعيد غير مسبوق وصل إلى تقديم شكوى لمجلس الأمن الدولي. وهو ما أجبر طهران على تقديم تعهّدات بعدم اللجوء إلى ضربات مشابهة في المستقبل.
أتى إعلان حكومة العراق حظر حزب العمّال نتيجة اجتماعات رفيعة المستوى جرت في بغداد كان عنوانها التحضير للزيارة المرتقبة التي سيقوم بها رئيس تركيا رجب طيب إردوغان لبغداد. وإن كان الإعلان يستهدف أحد الأذرع الكردية المقرّبة من إيران، إلا أنّه أيضاً يشكّل ضربة لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة بافل طالباني حليف طهران. وضربة للتنسيق الكبير بين جماعته وبين حزب العمّال الكردستاني. الذي سمح لهذا التنظيم بالتمدّد باتجاه محافظة كركوك. بالإضافة إلى حرّية الحركة في محافظة السليمانية الخاضعة لنفوذ وإدارة طالباني والاتحاد الوطني.
3,000 عملية عسكرية تركيّة..
إلا أنّ طبيعة هذه اللقاءات والمشاركين فيها، وما أسفرت عنه، خاصة في ما يتعلّق بحزب العمّال الكردستاني، أخرجاها من دائرة التحضيرات البروتوكولية إلى دائرة التفاهمات والصفقات الاستراتيجية. خاصة أنّ مروحة المشاركين فيها تؤكّد الحالة الاستثنائية للمباحثات وأهمّيتها. حيث ضمّت عراقياً: وزيرَي الخارجية والدفاع ومستشار الأمن القومي ورئيس هيئة الحشد الشعبي ووزير داخلية إقليم كردستان ووكيل جهاز المخابرات. وعن تركيا وزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس جهاز الاستخبارات.
جاءت لقاءات ومباحثات بغداد بين حكومة العراق وتركيا بعد إعلان الرئيس التركي نيّة بلاده القيام بعملية عسكرية. وإنشاء منطقة عازلة داخل الأراضي العراقية بعمق يراوح بين 30 إلى 40 كيلومتراً. وتأتي كتتويج لحوالي 3,000 عملية عسكرية شنّتها القوات التركية داخل الأراضي العراقية بين عامَي 2018 و2022. خاصة أنّ الهدف المعلن من هذه العملية هو إخراج أو القضاء على وجود حزب العمّال في منطقة سنجار. التي تتوسّط المنطقة الممتدّة بين إقليم كردستان ومحافظة نينوى باتجاه الحدود السورية. وهذه العملية إذا ما حصلت فلن تكون طهران قادرة على الاعتراض عليها. أو على أيّ تفاهم أو اتفاق قد يحصل بين بغداد وأنقرة. خاصة أنّ حكومة العراق مدعومة بتوجّهات من فصائل محسوبة تاريخياً على إيران، بدأت بالتملّص من حدّة النفوذ الإيراني على قرارها.
يبدو أنّ تقديمات تركيا إلى بغداد قد لا تكون مغرية بشكل كبير. إلا أنّها تمسّ عصب حاجة العراق الرسمية والشعبية. فقد رهنت أنقرة تجاوب حكومة العراق في موضوع حزب العمّال، بموضوع مشاركتها في الخطة الاقتصادية الاستراتيجية. التي أعلنها رئيس الوزراء صيف العام الماضي تحت عنوان “طريق التنمية”. والتي تربط ميناء البصرة بأراضي تركيا وسواحل البحر الأبيض المتوسط باتجاه أوروبا. وتشكّل معياراً لنجاح السوداني في الملفّ الاقتصادي، الذي يؤسّس لاستمراره ويعزّز موقعه في المعادلة السياسية. بالإضافة إلى إمكانية قبولها بزيادة حصّة العراق في مياه نهرَي دجلة والفرات التي تشكّل حاجة اقتصادية ومعيشية للعراق.
تركيا تشنّ عملية عسكرية في إدلب
يتزامن الإعلان التركي عن هذه النيّة مع معلومات عن حراك تركي أيضاً في محافظة إدلب يهدف إلى إعادة تنظيم الجماعات المسلّحة الموالية لأنقرة. وذلك استعداداً للقيام بعملية عسكرية ضدّ الجماعات المتطرّفة من “هيئة تحرير الشام” وتنظيم النصرة. وفي هذا الإطار تسعى فصائل المعارضة السورية إلى إبعاد نفسها عن هذه الهيئة والتنظيم. بإعلان انضمامها، كما فعلت حركة نور الدين زنكي، إلى فيالق الجيش الوطني المعارض. خاصة الفيلق الثاني. استعداداً للساعة الصفر للمعركة الحاسمة. بالإضافة إلى ما يدور من حديث عن تشكيل تركيا لغرفة عمليات لهذه الفصائل تتولّى قيادة المعركة.
يدفع هذا الأمر إلى الاعتقاد بأنّ القيادة التركية تسعى إلى فرض واقع جيوسياسي داخل الأراضي السورية والعراقية. كخطوة استباقية لأيّ تطوّرات أو تغييرات أو معادلات سياسية قد تشهدها المنطقة عند الانتقال إلى مرحلة الحلول والتسويات السياسية. في اليوم التالي لحرب إسرائيل على قطاع غزة وحركة حماس. فالعملية العسكرية في إدلب تُعتبر استكمالاً طبيعياً من الناحيتين العسكرية والجيوسياسية لما تطالب به حكومة العراق في منطقة سنجار ووجود حزب العمّال فيها. وهي المنطقة الخاضعة لسيطرة وإشراف قوات الحشد الشعبي.
تركيا تحاصر طموحات إيران
إخراج حزب العمال الكردستاني من سنجار وتحويله إلى منظّمة محظورة النشاط في العراق، بالتزامن مع التحضيرات التركية في إدلب السورية… يعني أنّ هدف تركيا يتخطّى مسألة الأمن الداخلي وأنشطة حزب العمال الكردستاني، الذي تضنّفه أنقرة كتنظيم إرهابي. ليتوسّع ويشمل محاصرة طموحات إيران ومشاريعها الاستراتيجية في الربط البرّي بين أراضيها وسواحل البحر الأبيض المتوسط. من باب استهداف تحالفها مع حزب العمّال الكردستاني والتفاهمات المصلحيّة التي نسجتها مع جماعة “قسد”.
عملت إيران، منذ ما بعد تحرير الموصل والقضاء على تنظيم داعش، بالتنسيق مع فصائل الحشد الشعبي، على بناء طريق برّي يربط بين الحدود الإيرانية والحدود السورية ومدينة الحسكة. للوصول إلى الشواطىء السورية باستخدام الطريق الاستراتيجية M4. التي تربط محافظة ومدينة حلب مع محافظة اللاذقية والساحل السوري. وهو الخطّ الذي من المفترض أن يشكّل شبكة مواصلات برّية وسككيّة تطمح إليها إيران. خاصة بعد بدء حكومة العراق بتنفيذ الوصلة السككيّة التي تربط مدينة خرمشهر الإيرانية بمدينة البصرة بطول 37 كيلومتراً. والتي تسمح بربط الخطوط الإيرانية بالخطوط العراقية والخطوط السورية وصولاً إلى الساحل.
من هنا يمكن فهم الاستنفار الإيراني اعتراضاً على اللقاء الثلاثي. الذي عقد في موسكو بين وزراء خارجية ودفاع روسيا وتركيا وسوريا في 28 كانون الأول 2022. واستُبعدت إيران عنه. وتضمّنت تفاهماته إعادة تشغيل طريق M4 ضمن خطّة أمنيّة مشتركة روسية – تركية. واستطاعت طهران فرض نفسها وتحويل هذه اللقاءات من ثلاثية إلى رباعية.
إلا أنّ التطوّر الأخير، الذي شهدته العاصمة الروسية موسكو، والعملية الإرهابية التي قام بها تنظيم خراسان الداعشي، قد يدفع الجانب الروسي إلى التعاون مع تركيا في أيّ عملية عسكرية في إدلب. وأن يسكت عن استهداف أصدقائه في حزب العمال الكردستاني في العراق. مقابل توجيه ضربة لهذه الجماعات المتطرّفة التي انطلقت من مناطق نفوذها في سوريا عبر تركيا. من دون الأخذ بعين الاعتبار المصالح الاستراتيجية لحليفها الإيراني. وتأثير التوسّع التركي داخل العراق وسوريا على طرق مواصلات إيران التي تربط بين الأخيرة والبحر الأبيض المتوسط.