شكلت مسألة التلاعب بالهويات الفرعية، واستخدامها سياسيا، واحدة من الظواهر الجوهرية في الأنظمة غير الديمقراطية، أو التي تصف نفسها بالديمقراطية؛ فهي، فعليا، تسيطر على صناديق الاقتراع بشكل مباشر وغير مباشر!
ومن أمثلة هذا الاستخدام أنه في عام 1975 عُيِّن السفير طه محيي الدين معروف، نائبا لرئيس الجمهورية لتمثيل الكرد وفقا لاتفاقية الحكم الذاتي التي وُقّعت عام 1970، ووفقا للاتفاقية نفسها، عُيِّنَ أيضا محافظان كرد في المناطق ذات الغالبية الكردية (السليمانية وأربيل ودهوك) لكن الجمهور الكردي لم يعُدَّ هؤلاء «ممثلين» عنه وإن كانوا ذوي هويات كردية حقيقية، وإنما كان ينظر إليهم بوصفهم مجرد «أدوات» من أجل الديكور السياسي! وبعد حرب تحرير الكويت عام 1991، وفي اعقاب التمرد الهوياتي الذي حصل في المناطق ذات الغالبية الشيعية وسط وجنوب العراق، استحدثت الدولة آنذاك، منصب رئيس الوزراء الذي ألغي على مدى 23 سنة كاملة (1968 ـ 1991) حيث أصبح الدكتور سعدون حمادي رئيسا للوزراء، ثم أعقبه محمد حمزة الزبيدي، وكلاهما بعثيان شيعيان، لكن لم ينظر أحدٌ إلى هذا «التمثيل» على أنه حقيقي يعكس شراكة حقيقية في السلطة، وبذلك فشل المشروع، وبالتالي ألغي المنصب بعد سنتين فقط!
وبطبيعة الحال، لم تتعلم البقة السياسية العراقية بعد 2003، لم تذخر جهدا في محاكاة لنظام الذي أسقطته، بل استمرت على نهجه وبتفان كبير، حيث عمدت هي أيضا إلى التلاعب بالهويات والتمثيل الزائف، وقد نجحت شكليا، ومرحليا، في تسويق هذا التلاعب لأغراض دعائية واستكمالا لمتطلبات الديمقراطية الشكلية في بلد تعددي.
في كانون الأول/ يناير 2005 جرت انتخابات الجمعية الوطنية في العراق في ظل مقاطعة سنية شبه شاملة، وعند تشكيل الحكومة الانتقالية اعتمادا على تلك النتائج، اضطُر رئيس مجلس الوزراء المكلف إبراهيم الجعفري، حينذاك، ومن خلفه الأمريكيون، إلى منح الوزارات السنية السبع إلى شخصيات، لم يسبق لستة منهم أن كان لهم حضور سياسي حقيقي قبل لحظة التزوير هذه، أما الوزير السابع فقد كان قد استُبعد من الحزب الإسلامي (الحزب ذي المكون السني) لرفضه الانسحاب من الحكومة المؤقتة التي تشكلت في حزيران 2004 بعد قرار الحزب بالانسحاب من الحكومة. ومرة أخرى تعامل الأمريكيون والديمقراطيون الجدد مع «هوية الوزراء» بوصفها دليلا على التمثيل!
وتكرر الأمر مرة أخرى في لجنة كتابة الدستور؛ فقانون إدارة الدولة المؤقت اشترط أن تتشكل هذه اللجنة من «نواب منتخبين» ولكن الغياب السني اضطُر الأمريكيين والديمقراطيين «المفترضين» إلى إدخال أعضاء سنة غير منتخبين أصلا، في هذه اللجنة للحفاظ على «الشكل» الهوياتي للتمثيل!
لقد قرر الفاعل السياسي الشيعي بداية من منتصف عام 2012، إعادة انتاج أو تشكيل ميليشيات عقائدية عسكرية موازية للقوات العسكرية الرسمية بشكل غير قانوني، واستخدمها في البداية لدعم نظام بشار الأسد، ثم بدأ باستخدامها نهاية عام 2013 في مهام قتالية داخل العراق! ثم استخدم بعد ذلك فتوى «الجهاد الكفائي» التي نصت على أنه على كل مواطن عراقي أن يساند القوات الأمنية في مكافحة «الإرهاب» وتحت مظلتهم، بطريقة ملتوية لغرض شرعنة وجود هذه الميليشيات العقائدية والتي كانت قائمة فعليا قبل الفتوى! ومن أجل حل «المشكلة الهوياتية» لوجودها، لجأت الأطراف المتنفذة، إلى حيلة انتاج مجموعات ذات هوية سنية تحت عنوان «الحشود العشائرية» فقد كانت مهمة هذه «الحشود العشائرية» وتسليحها مختلفا تماما، فقد كانت أقرب إلى «الحراسات» منها إلى المهمات العسكرية، لهذا لم يُسمح لها أن تحمل سوى بعض الأسلحة الخفيفة والمتوسطة ولم تحظ بتدريب حقيقي. وقد دخلت الأقليات أيضا في هذه اللعبة، حين تشكلت ميليشيات تركمانية (شيعية حصرا) في صلاح الدين وكركوك وتلعفر، وميليشيا مسيحية في غرب الموصل، ومليشيا يزيدية في سنجار (بالتنسيق مع حزب العمال الكردستاني PKK)!
ولم يكن التلاعب بالهويات والتمثيل، في العراق، مجرد خطوات تكتيكية يلجأ اليها للتغطية على اختلالات محددة لغرض التدليس على حقيقة الوضع في العراق، بل أصبح معتمدا لدى الفاعل السياسي الشيعي، بشكل منهجي، لضمان احتكاره للسلطة، وفي الوقت نفسه تسويق فكرة «الشراكة» الهوياتية دوليا!
وكان رئيس مجلس الوزراء الأسبق أول من أعتمد هذه السياسة من خلال «تصنيع» سياسيين وشيوخ عشائر تدين بالولاء له شخصيا، وبالتبعية لمشروعه السياسي، وتمكينهم عبر أدوات السلطة والمال السياسي، وتسويقهم على أنهم «ممثلون» للسنة، بل تجاوز ذلك إلى «تصنيع» شخصيات دينية، ومنحها ألقابا وهمية، في هذا السياق. والمثال الأوضح على هذا ما عمد إليه المالكي حين أعاد رجل دين سلفيا متطرفا من سوريا، ورتب له لقاءات مع الإيرانيين، وسمح له بانتحال صفة «مفتي العراق» ومكنه من الاستيلاء على جامع أم الطبول ثانية، وما زال هذا الرجل يحظى بغطاء سياسي وحكومي!
ليتطور الأمر إلى أن يكون لكثير من الأحزاب السنية، والفاعلين السياسيين السنة، عرابين ينتمون إلى الميليشيات، أو الفاعلين السياسيين الشيعة، وهو ما شهدناه بشكل صريح وفج بداية من انتخابات مجلس النواب عام 2018، ثم تكرر في انتخابات عام 2021، وتكرس أكثر في انتخابات مجالس المحافظات نهاية عام 2023 أولا، وفي الانتخابات المتعلقة بالمناصب في تلك المجالس، ثانيا، والتي جرت خلال الأسبوعين الماضيين!
وكانت انتخابات مجلس محافظة نينوى، النموذج الأبرز لسياسة اللعب بالهويات، فقد عمدت شخصيات تملك أحزابا وحضورا سياسيا وميليشياويا قائما على أساس تمثيلها الطائفي، بصناعة أحزاب «هوياتية» مختلفة، او التحالف مع أحزاب ذات هوياتية مختلفة، ودعمها عبر أدوات السلطة، والمال السياسي، وسطوة السلاح. وقد استطاعت، عبر الأدوات نفسها، والتي وصلت إلى حد التهديد المباشر، من تمكين «شخصيتين» ذات هوية سنية من منصبي المحافظ والنائب الفني للمحافظ، وحصول «شخصية» سنية أخرى على منصب رئيس مجلس المحافظة، مع أن الثلاثة هم مجرد واجهة لقوى سياسية غير سنية أصلا في محافظة يُشكل السنة 90٪ على الأقل، من سكانها!
لقد أثبتت التجارب أن فكرة التلاعب بالتمثيل الهوياتي، تنتهي حتميا إلى كارثة سياسية واجتماعية، فهي تكرس الانقسام الهوياتي في العمق، وإن كان تسويقها يوحي بعكس ذلك. كما أنها تفرض تراتبية تمييزية طائفية صريحة، قائمة على أساس أوهام علاقات القوة القائمة، والكارثة الأكبر أن تكون الدولة غطاء سياسيا لهذا التلاعب!