العدّ التنازلي لهجوم رفح!
مخطط الإبادة والتهجير لا يمكن أن يتمّ دون دخول رفح، وتدمير البنى التحتية ومقومات الحياة هناك حتى يكتمل سيناريو تحويل قطاع غزّة كاملاً إلى مكان غير صالح للعيش والاستمرار والبقاء حتى لو أراد الفلسطينيون ذلك
نريد هدنة ستة أسابيع، نريد هدنة ستة أسابيع..
مع كلّ جولة جديدة من المفاوضات المسرحية كان هذا المطلب الأمريكي يتردد، وقد انقضت بدل الستة “ستات” الأسابيع والأمريكان يكررون لازمتهم السمجة: نريد ستة أسابيع، نريد ستة أسابيع!
الأمر لا يحتاج إلى ذكاء خارق لاستنتاج أنّ المسألة برمّتها هي محض مماطلة وتسويف وشراء للوقت بدماء الفلسطينيين.. وذلك من أجل إفساح المجال أمام عصابة الحرب الصهيونية لإتمام المهمة القذرة التي تقوم بها بالنيابة عن أميركا وحلفائها الغربيين، وهي المهمة التي لم يتغيّر عنوانها العريض منذ اليوم الأول: الإبادة والتهجير.
ومخطط الإبادة والتهجير لا يمكن أن يتمّ دون دخول رفح، وتدمير البنى التحتية ومقومات الحياة هناك حتى يكتمل سيناريو تحويل قطاع غزّة كاملاً إلى مكان غير صالح للعيش والاستمرار والبقاء حتى لو أراد الفلسطينيون ذلك.
والأهم، قطع مظنّة أنّه ما يزال هناك شيء اسمه “دولة عميقة” في مصر، تقوم بدعم المقاومة من تحت لتحت، وترفدها بمقوّمات الصمود، بكون هذه الدولة العميقة تدرك أنّ الكيان الصهيوني هو عدو وجوديّ لها، وأنّ صمود المقاومة هو في حقيقة الأمر صمود لمصر، وأنّ الدور سيأتي على مصر وجيشها إن عاجلاً أو آجلاً في حال هُزمت المقاومة ومحورها.
ولأنّ دخول رفح ليس غاية في ذاته، بل خطوة أخرى ضمن مخطط يُفترض أن يُبنى عليه تالياً ما سيُبنى، فقد كان الكيان ومن قبله أميركا بحاجة ماسّة إلى فسحة من الوقت لإنجاز بعض الترتيبات اللازمة:
أولاً، إعطاء ماكينة الإجرام الصهيونية فرصة لإلتقاط أنفاسها بعض الشيء، وإعادة تنظيم صفوفها وتذخيرها بالسلاح والعتاد.
ثانياً، الانتهاء من استحكامات نتساريم التي يعوّل عليها الكيان في قطع أوصال قطاع غزّة، وعزل شماله عن جنوبه، والتحكّم في حركة كل ما تدبّ قدميه على الأرض في القطاع.
ثالثاً، وهو الأهم، الانتهاء من الميناء الأميركي العائم، ميناء العملاء والمرتزقة دخولاً والتهجير خروجاً في المدى القريب، و”الميناء المخفر” في المدى المتوسط، و”الميناء القاعدة” على المدى البعيد من أجل حراسة النهب الممنهج لغاز غزّة وثرواتها (على غرار قواعد اللصوصية الأميركية شرق الفرات).
بل إنّ زيادة تدفق المساعدات والمواد الإغاثية إلى مناطق شمال غزّة، والعودة التدريجية لبعض مظاهر الحياة هناك وسط مبالغة وسائل الإعلام والسوشال ميديا في نقل ذلك والاحتفاء به.. هذا أيضاً يمكن قراءته في إطار التحضيرات للهجوم على رفح، ومحاولة طمأنة النازحين وتشجيعهم على التوجّه شمالاً عندما يحين موعد إخلائهم.
وهكذا، وبينما الجميع منهمكون في متابعة أخبار مباحثات الهدنة العبثية،
ومنهمكون في متابعة مهزلة الخلافات بين “نتنياهو” و”بايدن”، ومنهمكون في متابعة أخبار التصعيد بين الكيان وإيران، ومنهمكون في متابعة التصعيد على جبهتي الضفة والشمال، ومنهمكون في متابعة جولات الدبلوماسية السمجة في أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن.. كان الكيان الصهيوني والولايات المتحدة يمنحان نفسيهما الأسابيع التي يحتاجانها من أجل رفح!
يجادل بعض المحللين بأنّ الكيان الصهيوني لن يُقدم على مغامرة الدخول إلى رفح، وأنّ التلويح بذلك هو مجرد وسيلة للضغط وورقة تفاوضية، فقوات الكيان منهكة، وروحها المعنوية متدنية، والمقاومة قد أعدّت عدّتها، والخسائر ستكون كبيرة، والمجازر في صفوف المدنيين ستكون فادحة، وموقف الإدارة الأميركية الانتخابي حسّاس.
ولكن هذه التحليلات تُغفل أنّ عصابة الحرب الصهيو – أميركية لا يعنيها البشر إطلاقاً، لا أهالي غزّة، ولا الشعب الفلسطيني، ولا “الشعب الإسرائيلي”، ولا حتى الشعب الأميركي نفسه!
كما أنّ هذه التحليلات تُغفل أنّ العدو الصهيو – أميركي يتحرك حالياً وفي جعبته حصيلة ستة شهور كاملة من التطبيع الحثيث:
تطبيع الجبهة الصهيونية الداخلية مع فكرة أنّ هناك حرباً تُخاض، وأنّ هذه الحرب ستكون طويلة، وأنّ هناك أثماناً بشرية ومادية لا بُدّ وأن تُدفع..
وتطبيع أهالي الأسرى الصهاينة مع فكرة أنّ أبنائهم قد لا يعودون أبداً..
وتطبيع الرأي العام العالمي مع فكرة أنّ للكيان الصهيوني حرية أن يرتكب ما يحلو له من مجازر وجرائم وموبقات، وأنّ التظاهر والشجب والندب والاستنكار هو أقصى ما يمكن القيام به إزاء هذه الجرائم..
وتطبيع الرأي العام العربي مع فكرة أنّ غالبية الأنظمة العربية تقاسم الكيان الصهيوني وأميركا والغرب كراهيتهم للمقاومة، وضرورة التخلّص منها وتصفيتها هي والقضية الفلسطينية نهائياً.. وأنّ دور الأنظمة العربية إزاء حرب الإبادة والتهجير ينحصر في إطلاق التصريحات والمناشدات، ولعب دور الوسيط، والتبرع بالمساعدات والمواد الإغاثية التي لا تسمن ولا تغني من جوع حتى إن وصلت.. وأنّ هذه الأنظمة في حال أفلتت الأمور عن السيطرة لا سمح الله، واندلعت حرب إقليمية شاملة، ستقف دون خجل أو وجل في صف الحلف الصهيوني الأميركي في مواجهة بقية أشقائهم في العروبة والإسلام!
الهجوم على رفح هو مسألة وقت، والمقاومة الفلسطينية هي أكثر مَن يعي ذلك، وهي أكثر الأطراف استعداداً لذلك، وأهم مقومين في استعدادات المقاومة هما عدم انجرافها وراء المناورات والخدع الصهيونية والأمريكية، وعدم رهانها في خططها وحساباتها على نوبة نخوة أو شرف مفاجئة يمكن أن تنتاب الأنظمة العربية، ولو أنّ المقاومة راهنت على ذلك لما استطاعت أن تصمد كلّ هذا الصمود الأسطوري، ولما استطاعت أن تسطّر كلّ هذه البطولات على مدار الأشهر الماضية!