أمريكا

الضغط على الجامعات لقمع الاحتجاجات الطلابية

هناك قواعد للمتظاهرين المؤيدين لغزة تقضي بعدم دعوتهم إلى العنف ضد اليهود، أو تهديد الطلاب اليهود في الحرم الجامعية، أو اللجوء إلى العنف الجسدي. كما أن مطالبتهم بمحرقة جديدة لليهود، أو بقيام أي شكل من أشكال العنف ضدهم هي أمر غير مقبول.

عندما كنت طالباً في الأعوام الأولى لدراستي الجامعية، شاركت في مسيرات دعت إلى سحب الاستثمارات من الشركات العاملة في جنوب أفريقيا، وكذلك في احتجاج على استغلال عمال النسيج في الجنوب الأميركي.

وعلى رغم أن فهمنا آنذاك للقضايا ربما كان محدوداً، إلا أن الضرورات الأخلاقية كانت حتمية. وعلى رغم سقوط نظام “الفصل العنصري” (أبارتهايد) Apartheid في نهاية المطاف في جنوب أفريقيا، ونقل وظائف النسيج إلى آسيا، فإنني أشك في أنه كان لاحتجاجاتنا تأثير يذكر. إلا أننا قمنا بدورنا، وكانت مشاركتنا خطوة حاسمة وجزءاً من رحلتنا نحو تطوير الوعي السياسي لدينا وولوج حياة الرشد.

أعتقد أن إدارة الجامعة ربما كانت تدرك أنه مع اقتراب الطقس الدافئ والامتحانات النهائية، فمن المحتمل أن يتراجع زخم الاحتجاجات الطلابية، قبل أن تعود موجة جديدة للظهور على شكل مسيرات أخرى في الربيع التالي. فبعد عام واحد، احتل مئات عدة مبنى الإدارة الرئيس الشهير وقضوا الليل في ظروف غير مريحة قبل مغادرتهم في اليوم التالي بقبضات مرفوعة وهتافات عالية.

وعلى رغم جهودهم، تمكن زملاؤهم من الطلاب المراسلين الذين يعملون في صحف مختلفة، من تأمين مساحات محدودة فقط في طبعات اليوم التالي لرواية ما حدث. وفيما جرى اتخاذ بعض الإجراءات التأديبية الخفيفة في حق المحتجين، بدا أن هناك شعوراً متنامياً بأن العصيان المدني يستحق الثناء، وأن فرض الانضباط هو غير مقبول من الناحية الأخلاقية.

ويمكن القول إن القضايا المطروحة باتت في العقود المتتالية الأخيرة أشد تعقيداً وأكثر إلحاحاً. فالمجازر التي ارتكبت في حق أبرياء في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي واحتجاز الرهائن، كانت مروعة وشكلت انتهاكاً خطراً للقانون الدولي. ولعل ما يستحق الإدانة بالمقدار نفسه، هو قتل أكثر من 30 ألف مدني فلسطيني، بمن فيهم عديد من الأطفال. لذا من الأهمية بمكان تأكيد أن عملاً وحشياً واحداً لا يمكن أن يبرر ارتكاب عمل وحشي آخر. إن قتل مدنيين واغتصابهم واستخدامهم دروعاً بشرية هي جرائم فظيعة ضد الإنسانية بغض النظر عما إذا كانوا يهوداً أو من خلفيات أخرى. والانتقام لا يجوز أبداً وفق القانون الدولي، حتى رداً على هجوم أولي شنيع. يضاف إلى ذلك، أن إيقاع خسائر مدنية غير متناسبة لتحقيق أهداف عسكرية، هو أمر لا يمكن تبريره على الإطلاق.

هل قتل مزيد من المدنيين بشكل عشوائي في أحداث مثل تفجير دريسدن واغتصاب نانكينغ وإسقاط قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي؟ نعم بالتأكيد. هل حقيقة أن النظام النازي الشرير كان يشن حملة إبادة تبرر قصف مدنيين عشوائياً؟ من المؤكد أنه قد يفسر بعض الدوافع أو المشاعر الأساسية، في تلك الفترة، لكنه لا يشكل مبرراً مشروعاً في أية حال. وأظهرت “اتفاقات جنيف” التي أبرمت بعد الحرب العالمية الثانية، أن المجتمع الدولي سعى إلى وضع بعض الحدود للحرب، ومنع تكرار مزيد من الفظائع. كما أن مبدأ “العين بالعين” لم يعد يصح تطبيقه في نظام دولي متحضر.

هذا الجانب يقودنا إلى ما يحدث في حرم الجامعات اليوم، إذ تغيرت أمور كثيرة. فوسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في إطلاق العنان على نحو لافت لصوت المتحدثين وتشجيعهم. يضاف إلى ذلك أن مناخنا السياسي يتسم في كثير من الأحيان بتيار خفي مستمر من التهديدات بحدوث عنف وشيك. لكن كما الحال دائماً فإن التعديل الأول [في الدستور الأميركي] لا يزال يوفر حماية واسعة النطاق لحرية التعبير، علماً أن هذا الحق ليس بلا حدود. ولطالما قضى القانون بأن كلاً من الحكومات والكيانات الخاصة مثل الجامعات، يمكنها أن تفرض قيوداً معقولة في ما يتعلق بالزمان والمكان وطريقة التعبير. كما أنه يجري تصنيف بعض أشكال التعبير على أنها “أفعال جرمية لفظية”، كالصراخ كذباً بوجود حريق في مسرح مزدحم، أو تحريض الغوغاء على ارتكاب أعمال عنف.

وتوجد في الواقع قواعد يجب احترامها لتسهيل قيام احتجاج سلمي، من دون الحاجة إلى اللجوء إلى العنف أو التحريض أو عدم احترام كرامة أو شخصية أفراد قد لا نتفق في الآراء معهم. ومن الأهمية بمكان أن ندرك أنه ليس كل فرد مؤيد للفلسطينيين هو شخص معاد بطبيعته، وبالمثل، فإن كل داعم لإسرائيل ليس بالضرورة مؤيد للعنف ضد الفلسطينيين. وفي حين أن بعض الأشخاص قد يجدون وجهات نظر الآخرين مسيئة إليهم أو حتى غير مقبولة، فإن هذا لا يمكن أن يبرر خنق حقوق الأفراد في التعبير بعدد من هذه الرسائل عن وجهات نظرهم، إن لم يكن بجميعها. ويتعين على الطلاب أن يتعرفوا على مجموعة متنوعة من الآراء، حتى تلك الصادرة عن الذين يتحدونهم أو يزعجونهم. ويحق لهم بالتالي الحصول على الحماية من التهديدات والعنف ولكن ليس من الخطاب السياسي.

في المقابل، فإن العواطف الشديدة، والسخط الأخلاقي، والمظالم والموروثات التاريخية التي تعرض لها الضحايا، والتماسك الجماعي، وجميع هذه الدوافع القوية للسلوك غير القانوني، لا تبرر في كثير من الأحيان هذا السلوك. ولا بد أن تكون هناك مساءلة ومحاسبة للتصرفات التي تعبر هذا الخط، لكن يجب إدارتها والتعامل معها بناء على قواعد محايدة واضحة، تطبق من دون تحيز من حيث المضمون.

ويحق للمتظاهرين المؤيدين لإسرائيل تنظيم مسيرات تطالب بالدفاع عن حق الدولة الإسرائيلية في الدفاع عن أمنها وحقوقها وشعبها. ويحق لهم إدانة حركة “حماس” التي يعتبرون أنها منظمة إرهابية. كذلك في وسعهم أن يزعموا أن إسرائيل لها الحق في المطالبة بقيام “إسرائيل الكبرى” التي تضم “يهودا والسامرة” [الضفة الغربية] – من النهر إلى البحر. إلا أنه يجب عليهم الامتناع عن اللجوء إلى العنف أو التشجيع عليه ضد الفلسطينيين. ولا يمكنهم تالياً أن يهددوا بالعنف ضد أولئك الذين لديهم وجهات نظر مختلفة عن وجهة نظرهم. ويمكنهم أن يصفوا حوادث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بأنها إبادة جماعية، سواء كان ذلك بموجب القانون الدولي أم لا، ولا يفترض أن يكون الكلام كله دقيقاً، إلا أنه يجب ألا يشكل تهديداً للآخرين أو يحرض عليهم أو يدعو إلى إلحاق الأذى بهم.

وبالمثل، هناك قواعد للمتظاهرين المؤيدين لغزة تقضي بعدم دعوتهم إلى العنف ضد اليهود، أو تهديد الطلاب اليهود في الحرم الجامعية، أو اللجوء إلى العنف الجسدي. كما أن مطالبتهم بمحرقة جديدة لليهود، أو بقيام أي شكل من أشكال العنف ضدهم هي أمر غير مقبول. لكن لديهم الحق في الدفاع عن فلسطين مستقلة وأن يطالبوا بدولة فلسطينية من النهر إلى البحر، ما دام أن تحقيق هذا الهدف لا يحض على استخدام العنف لتدمير إسرائيل. ولا يمكنهم في المقابل المطالبة بقتل الرهائن الإسرائيليين. وفي استطاعتهم أن يصفوا الوضع الراهن بأنه إبادة جماعية، سواء كان ذلك مرة أخرى مصنفاً في القانون أم لا. وفيما لا يمكن للمتظاهرين المؤيدين لإسرائيل، تهديد الفلسطينيين أو المسلمين أو إلحاق الأذى بهم، لا يمكن للمتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين تهديد الإسرائيليين أو اليهود، أو إلحاق الأذى بهم.

وتستمر الاحتجاجات في جامعة نيويورك منذ أسابيع، مما أثار مظاهرات مماثلة في نحو 50 حرماً جامعياً في جميع أنحاء البلاد. بالأمس، اقتحم مئات من ضباط شرطة نيويورك حرم جامعة كولومبيا لاستعادة السيطرة على المبنى الذي استولى عليه المتظاهرون المؤيدون لفلسطين. ويعتقد أن عشرات من الطلاب المتظاهرين اعتقلوا بعد أن شوهدت الشرطة وهي تدخل الطابق العلوي من قاعة هاملتون – التي أعاد المتظاهرون تسميتها باسم هند هول تخليداً لذكرى فتاة فلسطينية تبلغ من العمر ست سنوات قتلت في غزة خلال يناير (كانون الثاني).

ومن المحبط أن نرى سياسيين يقحمون أنفسهم في مواقف معقدة ومشحونة ويستغلونها لتسجيل مكاسب سياسية، وإلقاء اللوم على مسؤولي الجامعات، بغض النظر عما يقومون به – سواء لجهة اعتقال طلاب، أو طردهم، أو التفاوض معهم، أو محاولة نزع فتيل التوترات وإقامة حدود لها. وقد يهدد خريجون بوقف مساهماتهم المالية للجامعات التي درسوا فيها رداً على هذه المواقف (بقصد التأثير في قرارات إدارتها).

إلا أن حدود الإجراءات التي يتعين على الجامعات أن تقوم بها محددة في الدستور. فإداراتها لديها الحق والمسؤولية في السماح بوجود معارضة، وإن كان ذلك ضمن حدود معقولة في ما يتعلق بالزمان والمكان والطريقة. وعلى هذه المعارضة يجب أن تظل غير عنيفة، وأن تمتنع عن تشجيع العنف أو التغاضي عنه، ويجب أن تحترم كرامة جميع أفراد المجتمع. إن ضمان سلامة الأفراد اليهود والمسلمين، إضافة إلى تعزيز السلوك المسؤول من جميع المجموعات، هو أمر بالغ الأهمية. ولا يجوز إرغام الجامعات والمؤسسات الأخرى على قمع حرية التعبير على أساس وجهات نظر مختلفة.

يميل الأفراد بطبيعتهم كما المجموعات إلى تأكيد المعتقدات والقيم التي يؤمنون بها. أما النهج الأكثر حكمة فيتمثل في إفساح المجال للمعارضة للتعبير عن نفسها ضمن معايير وحدود معقولة. ويفترض بمديري الجامعات إعطاء الأولوية لجهود وقف التصعيد وتهدئة التوترات، وتفادي اللجوء إلى الاعتقالات الجماعية كاستجابة أولية أو ثانوية. إلا أنه في مرحلة ما، قد تضطر الجامعات إلى التدخل بهدف منع الوضع من الانزلاق إلى أتون العنف والفوضى.

وأخيراً من الأهمية بمكان أن تضمن إدارات الجامعات الحياد في طريقة تعاملها مع الأفراد الذين يدافعون عن وجهات نظر مختلفة. ويجب عليها حماية نفسها من الضغوط التي يمارسها سياسيون وخريجون لاتخاذ إجراءات يمكن أن تؤدي إلى تفاقم الأوضاع في الحرم الجامعي وخارجه بدلاً من حلها. وفي حين أن الصراع في غزة لا يمكن حله في حرم الجامعات، إلا أن القيم الأساسية القائمة على مبادئ التسامح والاحترام وحرية التعبير، أصبحت الآن على المحك.

إيريك لويس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى