الصراع حول فلسطين من الجذر اللاهوتي إلى الأٌفُق الإنساني الدُّنيوي
لا يَقِلُّ الوعي الجمعي العربي تحكُّماً وعدوانية عن الأنظمة العربية السياسية. لذلك، فالكثير من أهل الرأي والمُعارضِين قد يَجدون قُدرةً للجهر بآرائِهم ومواقِفهم ضد نظام الحكم السياسي، لكنهم لا محالة يَحتارون ويَتَلَكَّؤُون في مسألة الجهر ضد نظام الوعي والعقل الجمعي ومواجهة سلطة الجماهير.
ثم إن طبيعة أي سلطة في أعلى أي هرم سياسي، لا تستمد شرعيتَها ودَوامَها إلا من الوعي الجمعي الذي يُعد الحاملَ الموضوعي والاجتماعي لقيم نظام الحُكم، بل إنه حامِلٌ أشدُّ تركيزاً وتكثيفاً ونفوذاً في الحياة اليومية وفي بنية العلاقات الاجتماعية. والحال هذه، فتحريكُ نظام الحُكم العربي في المسألة الفلسطينية وغيرِها، أهوَن من تحريك نظام العقل العربي، ومُخاطبةُ النظام الأول / المُتحوِّل أيسرُ من مخاطبة النظام الثاني / الثّابت.
تأطير تاريخي للصراع باسم القداسة
صارت الأراضي المُقدَّسة مسألةً مسيحيةً منذ ميلاد السيد المسيح، وبدءِ السردية المسيحية التي دامتْ زمناً من الدَّهر، حتى اكتملتْ نُصُوصُها المرجعية، واكتستْ شرعيةً تاريخية، عندما تم تَبنّي المسيحية ديانةً رسميةً للإمبراطورية الرومانية على عهد الإمبراطور قسطنطين، وتكفُّل زوجتِه هيلانة بإيجاد وإعادة “صليب الصلبوت”، الذي صُلِب عليه المسيح وفق إحدى سرديات التراث المسيحي بما يحملُه هذا الرمزُ والحدثُ من دلالة في المشاعر الدينية. اشتدَّ هذا الارتباطُ المسيحي بالمنطقة مع وصول الجيوش الإسلامية إلى فلسطين بعد ظهور الإسلام، وتوقيع ما عُرِف باسم “العُهدة العُمَرية” نسبة إلى الخليفة عمر بن الخطاب حول ما كان يُسمّى مدينة “إيلياه”، حيث لم يكن هناك في المرجعية العربية الإسلامية حتى ذلك الحين أيُّ شيء باسم “القدس”؛ لأن المَلك الأموي عبد الملك بن مروان هو من سيَبني لاحقاً ما عُرِفَ في السردية الإسلامية باسم “المسجد الأقصى” و”القدس” و”بيت المقدس”؛ وذلك من أجل تحويل مشاعر وأنظار المُسلمين عن الأراضي المُقَدّسة بالحجاز، بعد أن تمَّ دكُّها بالمنجنيق، لحِيازةِ شرعيةٍ دينية جديدة في إطار الصراع السياسي بينَ الملك الأموي وعبد الله بن الزبير صاحب شرعيةِ مَكةَ المُكَرَّمة والمسجد الحرام؛ فقد فَرض هذا الأخيرُ على كُلِّ من يأتي من مُسلمي الأرض لإقامةِ شعائر الحج أن يعقد له البيعة، وهو الصراع الذي امتدَّ من حيازة الأرض إلى حيازةِ الشرعية النَّصية عبر تجميع وامتلاك سُلطة “الأحاديث النبوية” المُعَزِّزة لمفهوم القداسة والداعمة للسردية السياسية الأموية، خصوصا فيما يتعلق بالقدس ومعها رحلة المعراج.
كما تَعزّزت مشاعرُ الارتباط المسيحي بالأراضي المُقدّسة في فترة صلاح الدين والظهير بيبرس، وتَقوّت بشكل خاص منذ بداية الحرب الصليبية الأولى سنة 1095، وخلال تلك الحملة الأولى اقتَرَف الغربُ المسيحي مَحرقةَ اليهود الأولى، حيث جمَعَهم جميعاً وأحرَقَهُم داخلَ كنِيسِهِم. وقد استمرَّتْ تلك الحروبُ الصليبية قُرابَةَ قرنَيين بهدف إعادةِ الأراضي المُقدَّسة لحَوزة الكُرسي البابوي بحربٍ بلغتْ ذروةَ الدموية والبشاعة على طول التاريخ.
قصص مقترحة
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (على اليسار) يصافح الرئيس الأميركي جو بايدن قبل اجتماعهما في التلاسن بين بايدن وبوتين: بين السّخرية والجدّية تداعيات مقلقةالقيادي الفلسطيني أسامة العلي في صورة ملتقطة من الحوار معه على شاشة سكاي نيوز عربيةأسامة العلي: إسرائيل صنعت حماس.. و”7 أكتوبر” مخططصورة نشرتها البحرية الأميركية في 22 كانون الثاني/يناير 2024 تظهر أفرادا من طاقم حاملة الطائرات يو إس إس دوايت دي أيزنهاور وهم يجهزون لعمليات ضد الحوثيين اليمنيين المدعومين من إيران في البحر الأحمرضربات أميركية بريطانية جديدة ضد الحوثيين في اليمن.
ومع الحملة النابوليونية على مصر والشرق العربي سنة 1897، زادت المشاعرُ المسيحيةُ تَغلغُلاً تجاه الأراضي المُقدَّسة. هنا لا بد من لَفت الانتباه إلى أن نابليون بونبارت كان قد أصدرَ ما يُسمّى في الأدبيات التاريخية “وعد نابليون” لليهود سنة 1799. وحتى إن اختلفت الآراءُ بين المُؤرِّخين حول مدى صحة تلك الرسالة النابليونية، إلا أن لوسيان، شقيق نابيلون المُقَرَّب، كان قد نشر مقالاً حول نفس الدعوة والرؤية لتجميع اليهود في فلسطين وجعلِهم امتداداً لحملةِ نابليون في المنطقة، وهو ما يؤكد أن “المسألة اليهودية” كانت ورقةً تصارعَت بها القُوَّتان المُتنافِسَتان بريطانيا وفرنسا على حُكم العالم العربي ومُصادَرة كَينوُنَتِه وجودياً ومادياً، وهو الدورُ الذي استكْمَلَتْهُ الولايات المُتحدة الأميركية مُستفيدةً من فلسفَتِها البراغماتية الوظيفية، بعد أن استفادت من الحرب العالمية الأولى، وخرجت رابحةً من الحرب العالمية الثانية على عكس أوروبا المُدَمَّرة، وهو نفس الدور الماكر الذي تقوم به اليوم لتأزيم وتفجير الوضع في الشرق الأوسط بما يؤثر عليه وعلى آسيا وأوروبا، لتخرج هي المستفيد الأكبر من حروب الإنسانية. بهذا الشكل، فإنَّ الإرادةَ اليهوديةُ ذات النفوذ المالي والعلمي، وجدتْ في أمريكا قُوَّةً جديدةً جبّارةً، بعد أوروبا، تُمَكِّنُ لها في الأرض وتُحاول من خلالها مُداوَاة الكينونة الجريحة على حساب كينونةٍ فلسطينية صارت جُرحَ الإنسانية المفتوح.
فبعد القضاء الغربي المسيحي التدريجي على آخر قوةٍ إسلامية مُتَمَثِّلَةً في الإمبراطورية العثمانية خلال مُواجَهات عريقة انتهت بعد الحرب العالمية الأولى، ظهر إلى سطح الصراع ما عُرف باسم “المسألة الشرقية” خصوصاً بين الكاثوليكية الفرنسية، والأرثوذوكسية الروسية، والبروتستانتية الأنغليكانية. واشتد الصراعُ الرمزي والعسكري بين تلك المسيحيات، خصوصاً حول إدارة الأراضي المُقدسة وامتلاك مفاتيح الكنائس الرئيسة، وهو ما عجّل بتصفية “الترِكة الشرقية” بين القوى الاستعمارية فيما عُرِف باتفاقية سايكس، مندوب خارجية بريطانيا، وبيكو وزير خارجية فرنسا سنة 1916. لكن وبشكل انفرادي مُفاجئ، أصدرت بريطانيا على لسان وزير خارجيَتها ما صار يُعرَف بـ “وعد بلفور” سنة 1917، لإقامة مأوى لليهود في أرض الميعاد، وكان ذلك “وعد مَن لا يملك لِمَن لا يستحق”؛ لأن فلسطين لم تكن خاضعةً للانتداب البريطاني إلا لاحقاً سنة 1920.
هنا صارت المسألةُ المسيحية حول فلسطين مسألةً يهودية، كأنه انتقالٌ مفاجئٌ من براديغم أرض ميلاد المسيح إلى براديغم أرض ميعاد قَتَلة المسيح حسب رؤيةِ الغالبية المسيحية. ولرُبَّما أن علمانية الغرب وتَخَلَّصَه من الارتباط الديني، قد خَلَّف لدَيه رغبةً تاريخيةً لاشعورية من رُهاب الآخر العربي المُسلم بحُكم قوة اللاوعي اللاهوتي التاريخي بين الجانبَين، ثم إن صُداع الضمير الغربي وهو يتلظّى بأصداء المَحرقة اليهودية قد حَرّك عُقدة الذنب، ودفع أوروبا إلى أن تبحث لتوازُنِها النفسي عن صَكِّ غُفرانٍ أمام أعتاب الضحية اليهودية.
من هذا المُنطَلق، واستكمالاً لوعد بلفور، صدر القرارُ الأَمَمي (الأوروبي في جوهرِه) سنة 1947 القاضي بتقسيم فلسطين. ومثلما يستغلُّ الطفلُ الوحيد والمُدَلّلُ حَدْبَ والِدَيْهِ، ومَدفوعاً برُهاب ضّحيةِ التَّيه والشَّتات والاحتقار الذي لاحَقَه عبر تاريخِه العريق، ومُدَجَّجاً بدموية التلمود، انطلق الوافدُ إلى أرضِ الميعاد ليَقْتَاتَ على لحم ودم الشعب الفلسطيني في قتالٍ غريب بين أبناء العُمومة والمرجعية السماوية المُشتركة، قتال فاق قَرْناً مُتواصِلا من الزمن، تَرعاهُ العنايةُ الغربيةُ الحضارية مُتعامِيةً عن مبادئَ فلسفة الأنوار!
إنَّ الديانة اليهودية لم تكن يوماً ديانةً تبشيرية دَعَوِية، ولم تكن يوماً ذات نفوذ حضاري جغرافي مُمتد ومُستقر، بالتالي فهي لم تُعتَبر مُنافِساً شَرِساً، ولم تدخل حلبةَ الصراع اللاهوتي المُعلَن. وهذا الأمر هو ما يُفَسِّر الترحابَ والحظوة التي لَقِيَها اليهودُ في النسق الثقافي العربي الإسلامي، والتقارُب في الكثير من العادات والتقاليد بين المُسلمين وأبناء عُمومتهم اليهود، بل هو ما يُفَسِّرُ الأدوارَ الطلائعية التي قام بها اليهودُ في بلاطات الحُكام المسلمين، على النقيض من نُظَرائِهم المسيحيين.
لكن هذه المُعادلة اللاهوتية عرفت كثيراً من التبدُّلات منذ صار لليهود حلمُ وطن يَأويهم، فعادوا إلى بلاد فلسطين، جاعِلِين منها أرضَ ميعادِهم، بالتالي صاروا يُهَدِّدون رمزيةَ اللاهوت الإسلامي، الذي حَرّك مَحارقَه وشحَذ كلَّ ما عنده لمُواجهةٍ لاهوتيةٍ حارقة استَثْمَرَها الخِطابان السياسيان الإسلامي والتقدُّمي لمزيدٍ من سوء الفهم والتطاحُن واقتتال بَني الإنسان واللعب على سيكولوجية الجماهير في مواجهة الأنظمة الحاكمة والمُزايدة السياسية عليها، وكما أشَرْنا فالخصمُ اللاهوتي المسيحي، كان هو من سَهّل حُلْمَ اليهود، وسانَدَهم في اقتحام فلسطين؛ لأنه رَغب في استراحةٍ من حلبةِ الصراع المُباشر، وأنابَ عنه قَرِينَه اللاهوتي المُتَّهم بقتل المسيح وفق السردية المسيحية!. ولأنه من جهةٍ ثانية رَغِبَ في إراحةِ الضمير الغربي من وِزر الشعور بالذنب بعد هولوكوست الحداثة الغربية المسيحية.
من جهةٍ، يؤكد هذا الحَفرُ الجينالوجي أن العداء ّالغربي للشرق العربي يأتي ردةَ فعل على العداء العربي الإسلاموي للغرب، بوصفه يُشكل في المرجعية الذهنية “دار الكفر/ دار الحرب”، لا سيما أن أصداء المُواجَهات الصليبية وحُروب الاسترداد كانت آثارُها ما تزال مُستمرِّة، بل إن الخطر الإمبراطوري العثماني كان حياً ومُتغلغِلاً في قلب أوروبا. ومن جهةٍ أخرى، فهذا الحفر الجينالوجي يؤكد أن الخطاب الثقافي المركزي المُهيمن في النسق الثقافي الغربي المعاصر تجاه الآخر العربي المُسلم، يجد تأسيسَه وأمشاجَه الأولى في الوازع اللاهوتي الديني المسيحي، بل إنَّ كولومبوس يذكُر في يومياته ورسائله إلى المَلِكَيْنِ الإسبانِيَيْنِ والبابا أن غايتَه من الرحلة هي جَني ثروة الذهب لتجييش حملةِ استرجاع الأراضي المُقدّسة، مما يعني أن الوازع والرهان لم يكن استكشافاً دُنيوياً مَحضاً، بل دينياً في العُمق. وبَعده بحوالى قرنٍ ونصف نسمع أنكريز ماثر، رئيس جامعة هارفرد، يَتضرّع في خطابه: “حين يتسنى لمملكة المسيح أن تملأ الأرض قاطبة، سيكون لهذه الأرض أن تعود إلى حالتها الفردوسية” (1). إنه موقفٌ وتصوُّرٌ يَصدر عن رمزٍ علمي ومعرفي يُشكّل صَرحاً تأسيسياً في الفكر الأميركي والغربي الحديث، وهو ما ينفي، أو يُخَلخل مُسَلَّمةَ لائكيةِ المعرفة أو الحداثة الغربية، على الأقل في علاقةِ خطابِها المعرفي الثقافي تجاه آخَرِها الشرقي الإسلامي تحديداً، ويجعلُها موضعَ مُساءلةٍ من حيث أُسُسها الإبستمولوجية. ففي أوج دعاوى الحداثة الأوروبية مثلا، تُوِّج نابوليون إمبراطورا عام 1804 بحضور ومُبارَكة البابا الذي مَسح على رأسِه وبارَك سيفَه وصَولجانَه تَيَمُّنًا بفكرة المسيح المُخَلِّص وبعثاً لروح الإمبراطورية الرومانية المُقدسة. كما يحضُرُنا شاهدٌ تاريخي آخر، فعندما هَزم الجنرالُ غورو الثوارَ العرب في معركة ميلسون بضاحية دمشق سنة 1920، توجَّه رأسا إلى ضريح صلاح الدين الأيوبي صادحا: “ها قد عُدنا”. وليس يخفى أن دعم السردية اليهودية حول الجدارة التاريخية لحيازة أرض الميعاد قد عرف تحريفات أركيولوجية خطيرة قادَها المؤرخون خلال نفس فترة الصراع حول حيازة الأرض، وهذا لم يمنع ظهور أصوات علمية غربية وإسرائيلية حتى تُفنِّد ادعاءات نتائج تلك البحوث. أما وإذا صحّت السرديةُ الأركيولوجية المُضادة التي مفادُها أن الأراضي اليهودية الدينية المُقدسة توجد في الجغرافيا اليمنية وضمن تاريخها القديم، وهي السرديةُ الأكثر دقّة وحجِّية بالمناسبةً، فإن هذا من شأنه تأكيد أن المئة ونصف سنة الأخيرة من التاريخ، هي أكثر فترات الإنسانية تخلُّفا وعمىً!
إنَّ الأرضية اللاهوتية الأسطورية والوضعية هي المُحِدّد الأولي والمَرجعي لتجربة الإنسان في التاريخ، مُعَزَّزَةً فيما بعد بنُزول النصوص ذات المرجعية السماوية. ومَهما تحَدَّثْنَا عن القطائع الإبستمولوجية في التاريخ، إلا أنه لا يمكن بأي حال النظرُ إلى هذا التاريخ على أنه انقطاعٌ كلُّي مُصْمَتٌ، الدليل على ذلك هو استمرارُ كثيرٍ من أشكال الخرافة والأسْطَرة والطقوسية جنباً إلى جنب مع أكثر أشكال الوجود الإنساني حداثة ومعاصرة. كل هذا وغيرُه يؤكد أن الوعي والفهم اللاهوتي يُشكِّل النَّواة الخَفية (2) الأكثر تحَكُّمًا وتأثيراً في علاقة الذات بالآخر، لا سيما الذات أو الآخر المُنتَمِيان إلى تُراثٍ لاهوتي مُمتَدّ، مهما تَقنَّعت الذاتُ أو الآخر بِحُجُبِ المُعاصرة.
لا بد من الوعي بالحساسية الخاصة في العلاقة العربية الإسلامية مع الثقافة المسيحية الغربية، فقد ظهرت الأعراضُ الأولى في المواجهة مع العالم المسيحي عقِب نُزول النص السماوي الثالث؛ أي القرآن، ومِن بعده الأحاديثُ المنسوبة للنبي، وهو ما شكَّل انطلاقةَ الصراع المُحتدم في الخطاب مدةً طويلة، من ذلك مثلاً وصفُ الرسالة المحمدية أنها ليست سوى هرطقة، وشكلٍ مُنحرِف للمسيحية جاء به كاردينال من الجزيرة العربية يسعى إلى منصب البابوية. تتالت أيضاً المُواجَهات الكلامية من طرف المُسلمين الذين يَرَوْن في كُلِّ المسيحية انحرافاً عن مِلّة عيسى، وأن الإسلام جاء يجُبُّ ما قبلَه وما بعدَه من أشكال المُعتقد، واتخذوا ذلك حُجَّةً للاضطلاع بدور الإنابة عن الله وتصفية الحساب دُنيوياً مع الآخَر بتأويل الآية القرآنية: “ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه”. إنها تلك التفريعات المُختلفة والمُتعَدّدة ممّا صار يُدعى اللاهوت التاريخي. وليس غريباً أن الغرب قد خَصَّ الشرقَ الإسلامي بخطابٍ وقتالٍ عريق، وهو نفس الميكانيزم الذي خَصَّ به الشرقُ الإسلاميُّ آخَرَه وأخاه السماوي اللَّدُود؛ أي الغرب المسيحي، لا سيما منذ سقوط بيزنطة آخر معاقل الصليب بضربةِ سيفٍ من الهلال. لذلك نؤكد أن العلاقة الغربية مع الإسلام تَعرف تَوتَّراً خاصاً، يجعلُنا نعرف لماذا أن صورة الإسلام وحدها التي “أثارت تاريخياً الشعور العميق بالفرق الثقافي وبالتهديد معاً” (3)، كما يقول المفكر الأميركي زكاري لوكمان.
إن المُعتقدات والطقوس الدينية الأسطورية والخُرافية تشكِّلُ القاعدةَ التي نَهض عليها الوعيُ والإدراكُ البشري، وهي الأرضيةُ الذهنية الأولى التي تمُور فيها الرؤيةُ إلى الذات والعالم. من الثابت أيضا أن اللاوعي أكثرُ تحكُّماً وحضوراً في السلوكيات والمواقف الإنسانية، وهو تلك المنطقةُ التي ما تزال بعد مجهولةَ المَغالق، بالتالي فأيُّ خلخلة أو رَجّة تاريخية في أي لحظة مُعَيَّنة قد تُعيد السلوكَ الإنساني إلى تلك البدايات البدائية الأولى، وهو ما يعني أن المُنجَز المدني المعاصر مُهدَّدٌ في كل لحظة وحينٍ بطلوعِ الرؤية الأولى للعالم من أصقاع اللاوعي الفردي والجمعي لتَنسف المُنجَزَ الإنساني التحضُّري. ومهما تَغلّف الإنسانُ المعاصرُ، سواء كان مُثقفا أو عامِّيا، بأقنعةِ الحضارة ومقولات المدنية أو اللائكية، إلا أنه محكومٌ بشرط النُّكوص والارتداد التاريخي إلى تلك البدايات اللاهوتية المُؤسِّسة. لنا في أرقى لحظات التطوُّر الإنساني أدلَّة وشواهد كَثرى على لحظات الانحدار البشري نحو ميكانزمات عملِ الذهن العَقَدي الاستئصالي كما يحدث اليوم ضد الشعب الفلسطيني، وهو نفس الهُجاس الذي يَمور في نفسية الطرف الآخر/ ضحية اليوم تجاه خصمِه اللاهوتي اليهودي / المسيحي. ولعلَّ هذا ما شحَنَ الذهنيات في عمومها بتلك القوة الذاتية الإيديولوجية المُنغلقة، وجعَل التاريخَ الإنساني سِجِلّاً للموت أكثرَ منه سِجلاًّ للحياة، وهو ما كاد يُودي بالإنسان إلى مَهاوي الاندثار لولا القدرةُ البيولوجية للبشر على التوالُد. نَضرِب لذلك مثالاً (4)، فمنذ 3500 سنة قبل الميلاد حتى أواخر القرن العشرين قد شهد تاريخُ الإنسان 14500 حربا، كان ضحيتها 3.5 مليار إنسان، بينما تخلَّلَتْها 300 سنة فقط من لحظات السلام.
ومع صُدور الخطاب الديني ذي المصدر السماوي الذي جاء بفكرةِ هداية الإنسان بعد ظَلاَلِهِ في الأرض وعَجْزِهِ عن إعمارها، حدث العكسُ بأن تأجَّجت النفسيةُ البشرية واحتدّت الذهنيةُ أكثر، مُتَوَهِّمَةً بالسَّند الإلهي في خدمة الله عبر إفناءِ عباده من داخل المِلّة ومن خارِجِها، وهو أمرٌ خَبِرَتْهُ الدياناتُ التوحيديةُ على طول تاريخ الاعتقاد. ولرُبما لا اختلافَ أن ما صنعَه اللاهوتُ من حروب أكثر بكثير من صنيعِه في السِّلم والإعمار، كأن الإنسان كان أقلَّ فَهْمًا من مُستوى النصوص، وأضيقَ عقلاً من أن يَتمثَّل غايات المُعتقد السماوي.
من أجل أفق إنساني يتجاوز الصراع
التزاماً بالمنظور الإنساني المُستقْبَلي، فإنه مهما تعدَّدت دعاوى ومُقترَحات الأُفق الإنساني المُشترَك، فإن إعادة فهمِ وتأويلِ المُعتقد اللاهوتي – الثُّلاثي خصوصاً – لمُجابَهة سُنَنِه القديمة الجديدة حول العلاقة بين الذات وآخرِيها، تبقى ضرورةً وأولويةً، لا بد أن تُأخَذَ بالحُسبان. فإذا كان تأويلُ الدين هو المُشكل التأسيسي الذي شيَّد اللاوعي اللاهوتي وأقام الأَبنِية النفسية المُتطاحِنة، فإن فَهْماً آخر للدين ولإواليات اعتمالِه، لا بد أن يكون هو الحل. وإلا، فإن أي ادعاءٍ وهُروبٍ من المسألة الدينية تحت أي مُسمّى، قد يكون العلمانية، العقل التكنولوجي، أو السلفية، لن يكون إلا استدامةً لنفس الإواليات التصادُمية الإفنائية الثاوية في اللاوعي التاريخي، واستمرارًا للنَّواة الخَفيّة في توجيه العلاقات الحضارية. ولنا في “الهسكالاه”، شاهدٌ تاريخي مُتوَهِّج، حيث إنها شكّلت جوهرَ ما عُرف بـ”عصر الأنوار” في الفكر اليهودي خلال الفترة الأندلسية، وهي التي أثمرت “مدرسة نقد التوراة”، كوجهٍ إنساني خلّاق في الهوية اليهودية، إضافة إلى الدور المعرفي القوي لما يُعرف في الفترة الحديثة بـ”حركة المُؤرِّخين الجُدد” التي تُمثِّلُ الضميرَ اليهودي، زيادة على أنصار حركة السلام داخل المجتمع الإسرائيلي التي يُنتظَر منها الكثير من أجل أَنْسَنَةِ حق اليهود في الوجود، والأدوار الجريئة للتوجه السياسي الشيوعي في الداخل. دون نسيان الأصوات الإسرائيلية الإنسانية في بعض اللوبيات العالمية، والإشراقات الخلاّقة للرهائن الإسرائيليين المُفرج عنهم حتى الآن.
كما يقول ميشيل فوكو، فإن “التاريخ الجينالوجي يُعلِّمُنا الاستخفافَ بالحفاوة التي يحظى بها الأصل. فالأصلُ الأسمى عبارة عن فائض في النمو الميتافيزيقي قائم على تصوُّر مُؤدّاه أن الأشياء كانت في بدئها تَتوفّر على ما هو نفيس جدا وجوهري جداً” (5). إن على الأفهام الإسرائيلية والعربية المُسلمة أن تتخلَّص من هذا الفائض في نُمُّوّها الميتافيزيقي، وتبحثَ عن حلولٍ دُنيوية واقعية لتدبير المسألة الفلسطينية والحق المُشترك في الوجود العادل وفق الفهم والوعي المُعاصر، وعلى ضوء المُقرَّرات الدولية التي وَجَب أن تخرُج من الحامل البلاغي إلى الإجراء الفعلي، بَدل هذا الولاء الغربي غير الأخلاقي للآلة الإسرائيلية مدفوعاً بالرُّهاب التاريخي من الآخر العربي المُسلم، وبَدَلَ هذا العمى العربي الإسلامي عن الواقعية الحضارية، العمى الذي يَنحازُ للإفناء عبر خيار الموت في سبيل الله، ويَبتعدُ عن خيار الإعمار والعيش في سبيل الله، دون مُرَكّب الوصاية الدينية على البشر إسوة بالرسول الكريم الذي بُعِثَ رحمةً للعالمين. وإلا فإن التاريخ سيبقى حلقةً دموية عَقِبَ الأخرى وسيتَحمّلُ الجميعُ، راهِنا ولاحِقا، ضرائبَ استمرارِ الصِّراع، وما التبديلُ إلا في مُعادَلةِ مَن يَملك القوةَ لقتل الآخر، أما العداءُ فهو واحدٌ وثابتٌ لدى الأطراف مُعَزَّزاً بسُلطة اللاوعي اللاهوتي التاريخي وعُقدة السيطرة.
إذا كان ما قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) قد استدعى تطبيعَ العلاقات على المستوى الإداري الرسمي، فإن أهوال ما بعد هذا اليوم ودلالته المُستقبلية تستدعي تطبيع العلاقات على المستوى الوجودي والإنساني والسياسي، وسد الطريق أمام أي نوع من التفكير العصبي والشوفيني. ولستُ أعجبُ إلا من أصواتِ بعض المُثقَّفين، مِن أهل الحداثة، ويا للغرابة، وأهل السلف، الذين انتعشوا مؤخراً في إعادة تنشيط الوهم الداخلي وضَخِّ الدماء في أُدلوجة رفض الآخر الإسرائيلي والغربي وشحن الذهن الجمعي بعبوات المواجهة القيمية، كأن نتائج العداء القديم والأدلوجات السابقة على امتداد قُرابة قرن تحتاج إلى قرابين بشرية أخرى واستدامة الصراع. وليس بعيدا أن الذات الجمعية العربية مُصابةٌ بعمى الحقيقة والمازوشية الطافحة. فبالنظر إلى فداحة الهَوان الحضاري العربي المُنكَشِف على كل المستويات: العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، والمعرفية، والتكنولوجية أمام الآلة الغربية. ولا أدلَّ على ذلك من أن الفلسطينيين خسروا جميع الحروب التي خاضُوها ضد إسرائيل في 1936 و1948 و1967 و2005 واليوم في 2023 و2024. ولا شك في أن التاريخ والجغرافيا يؤكدان بشكل فادح وفاضح تقلُّصَ الإنسان والمجال الفلسطيني بعد كل حرب ومواجهة، مُقابل انتصارات عربية بلاغية ولغوية عُصابية ومازوشية استيهامية لمحو إسرائيل من التاريخ، ممّا يجعل هذا الخطابَ العربي المُؤدلَج والمُؤدلِج مَلهاة ًمأساويةً في التاريخ المُعاصر. لذلك، ومن مُنطلَق البرغماتية والواقعية التاريخية على أقل تقدير، ومن أجل أنْسَنَةِ الإنسان الفلسطيني، فإن على العرب أن يُبادروا إلى المُصالحة الوجودية والتسوية السياسية مع إسرائيل / الغرب. هذا إذا كان الإنسانُ العربي يعني للعرب شيئا حقا. أما إذا كان مُجرّدَ قُربان مُفترَض على مذبح الأوهام والهذيان الجمعي، فذلك حديثٌ آخر.