أمريكا

السياسة الخارجية الأمريكية «كبش فداء»

المهتمين بمعرفة حظوظ الفوز لكل من بايدن وترامب في الانتخابات، بمُفارقة موحية ذكرها بروفيسور العلوم السياسية جون ميرشايمر عن دونالد ترامب.

عدد المؤثِّرين في السياسات الخارجية للولايات المتحدة، أعلى بأربعين في المئة من أعداد الطبقة الفرنسية الأرستقراطية التي حضرت لمشاهدة وجبة طعام، جمعت “اللويسين الخامس والسادس عشر مع ماري أنطوانيت عند مجيئها إلى فرنسا للزواج من الأخير”. بحسب ستيفان زفايغ أيضاً كان على الستَّة آلاف أرستقراطي أن “يدفعوا آلاف الفرنكات كي يشاهدوا ذلك”.

جانيس. ج. تيري تذكر أن “عشرة آلاف فقط هم من يتحكمون بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة لا مئات الآلاف كما يعتقد الكثيرون”. المؤكَّد أنّ اللوبيات الإسرائيلية وغير الإسرائيلية، هي أكثر العصافير المُزقزِقة على الأسلاك الدبلوماسية للبيت الأبيض. المُفارقة أنّ كُل هؤلاء المُزقزقين يسعون لهدفٍ واحد، عبَّر عنه مؤسس لجنة الشؤون العامة الأميركية – الإسرائيلية آي. إل. سايكينن “إخبار الرئيس بضرورة الهيمنة على وزارة الخارجية”.

الجالس على المكتب البيضاوي ومستشاروه، دائماً ما حاولوا عزل الجمهور والكونغرس عن السياسة الخارجية. عندما يكون الخصم قوياً جدّاً مثل السيناتور جوزيف مكارثي، والذي حاول تطهير الحلقة الداخلية للرئيس الأسبق دوايت إيزنهاور من أيَّ عناصر شيوعية افتراضية، استخدم الثاني ما يُعرف بـ”الامتياز التنفيذي” لقطع الطريق على هذا السيناتور، المولع بشكلٍ غير صحَّي بالمشروبات الروحيّة والشيوعية. هكذا احتفظ إيزنهاور بما يدور داخل البيت الأبيض من نقاشات عن السياسات.. داخليَّة وخارجيَّة طي الكتمان، لكنه اضطر لاستخدام هذا الحق أربعاً وأربعين مرَّة. بالمناسبة، هذا الامتياز غيرُ منصوصٍ عليه في الدستور الأميركي.

جانيس. ج. تيري وصلت إلى حدِّ وصف رئاسة الأسبقين ليندون جونسون وريتشارد نيكسون بأنها “امتيازية”. ما توصلت إليه تيري قبل عشرين عاماً تقريباً يصلحُ لفكرةٍ ذات حدين “السياسات الخارجية للرئاسية الأميركية يجب أن تكون امتيازيَّة في عصر التسريبات الرقمية واللوبيات الشَّرِسة”.

مات فورد الكاتب الصحافي في “النيوريببلك” نصح بدوره الرئيس جو بايدن في الـ7 من فبراير 2023 بامتطاء “الامتياز التنفيذي” في سباقهِ التشريعي والسياسي مع الجمهوريين. طبعاً، ما كتبه فورد كانت عروته ملتصقة بـزِرار السياسات الداخليَّة.

عدد مرَّات ممارسة الامتياز التنفيذي، بعد أن هجعت منذ السبعينات القرن الماضي، عاودت النشاط في رئاسة بيل كلينتون أربع عشرة مرَّة. بدأ هذا النشاط لتخفيف تداعيات فضيحة “وايت ووتر”، وحماية نفسه والسيدة الأولى من الشهادة أمام الكونغرس. أمّا رئاسة جورج بوش الابن فقد شهدت استخدام هذا الحق الرئاسي ستَّ مرَّات واضحة فقط ومئات المرَّات المُتنكِّرة!

ديفيد هيوبرت من كلية سولت ليك المجتمعية قال عن “بيان الرئيس الموقَّع” والذي أعتقد بنسبةٍ ممتازة إنَّهُ قناع لـ”الامتياز التنفيذي” للرئيس “الرؤساء مجتمعون أصدروا بيانات موقَّعة 322 مرَّة. جورج بوش الابن أصدر لوحده بيانات موقَّعة 435 مرَّة وذلك في ولايته الرئاسية الأولى فقط”.

كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، فُرصة لانتعاش البيانات الرئاسية الموقَّعة التي تحمل وزن القانون، وازدهار دور الرئاسة التنفيذية (ألطف تعبير ممكن) لنائبه ديك تشيني.. أبرز المحافظين الجُدُد. ما أخفى تشيني وأظهر الابن على المسرح، كان اليافِطة الكبيرة “مكافحة الإرهاب”. ولهذا جادل آرثر شيلسنجر في كتابه “الرئاسة الإمبريالية”، بأنَّ “زيادة القوة الرئاسية كاستجابة لمقتضيات الأمن القومي تُهدِّد بتمزيق النسيج الدستوري”.

الجمهوريون اليوم بفضل بوش الابن، تبنوا العقيدة التي باتت تعرف بـ”نظرية الوحدة التنفيذية”. نستطيع اختصارها نقلاً عن هيوبرت “الرئيس له السُلطة بالتصرُّف بدون تفويض قانوني في عالم الأمن القومي، له الحق لا بتنفيذ القانون فقط بل وتنفيذه بحسب ترجمته الشخصية”.

مبدأ الأخيار والأشرار/ الأسود والأبيض في البيئة الدولية رمادية اللون، ساهم في تحشيد الشارع الجمهوري، وجعله كُتلة متماسكة تبحثُ عن رئيسٍ قادر على تشخيص المشاكل الأميركية كزجاجات بيرة، يصوِّب الرئيس عليها رشقة كلمات من لِسانه الأوتوماتيكي فتختفي. هكذا استطاع الرئيس السابق دونالد ترامب أن يُقنع الجميع بشِعاره وشَعره الأحمر “لنجعل أميركا عظيمة مرَّة أُخرى”. الكاتب الصحافي في الواشنطن بوست بول ولدمان اعتبر الشعارات البسيطة إحدى أهم سبب نجاح سياسات الجمهوريين، ناصِحاً الديمقراطيين بالحذاء الجمهوري عندما يُفكِّرون بإطلاق شعارات جاذبة لسياساتِهم.

هذا التحشيد كان سيجعل فوز الرئيس جو بايدن في انتخابات عام 2020 مستحيلاً، لولا لجوء الديمقراطيين إلى تسهيل الإجراءات الانتخابية مثل التصويت عبر الرسائل الإلكترونية وعبر الطرود البريدية. أدَّت تلك التسهيلات إلى رفع نسبة المشاركين إلى 67 في المئة تقريباً. قراءة الإحصاءات منذُ 2008 وحتى 2020 تُبيَّن أنَّ أيَّة زيادة كبيرة نسبياً (من 2 إلى 10 في المئة) في عدد أصوات المقترعين، تؤدي إلى ميلان الرئاسة باتجاه الديمقراطيين بنسبةٍ كبيرة. أوباما فاز في 2008 نتيجة اشتراك 52.9 في المئة من عدد الناخبين المُسجَّلين وفي 2012 ارتفعت نسبتهم إلى 58.2 في المئة. وانخفضت إلى 55.6 في المئة في انتخابات 2016 التي فاز بها ترامب على هيلاري كلينتون. السؤال هنا: لو كانت هيلاري رجلاً ولم يكن الرئيس الأسبق هو باراك أوباما هل كان ترامب سيفوز؟ علماً أنَّ الولاية الرئاسية الثانية لجورج بوش الابن شهدت لأوَّلِ مرَّة ومنذ عقودٍ طويلة زيادة نسبة المقترعين الذين يحق لهم الانتخاب بأكثر من نسبة الخمسين في المئة بقليل.

ممارسة السياسة الخارجية تحوَّلت في عهد ترامب كبش فداء، لتماسك الجبهة الحزبية في الداخل الأميركي. الإنجيليون وتل أبيب كانا ضمانةً أخرى لحسن سير الشارع الجمهوري بسلوكٍ ترامبي. صوَّب الرئيس الأحمر باتجاه الناتو، اتفاقية المناخ، التعرفة الجمركية مع الصين و.. إلخ، فلم يخطئ الهدف ولا لمرَّة.

ضياع الحدود الفاصِلة بين إمبراطورية خارج الحدود وجمهورية داخلها، يُهدِّدُ بـأزمة سياسية عالميَّة (حروب إقليمية وهشاشة أمنية). كما أنَّ الاستقطاب الحزبي في الولايات المتحدة يدفع مؤسسة الرئاسة إلى التعامل مع قضايا السياسة الخارجية كشؤونٍ داخلية، ورفع كولسترول “الامتياز التنفيذي” في الجسد الرئاسي وأذرعه التنفيذية. كذلك هو يفرِضُ عليها أن تتعامل مع دول العالم بسياسة “التفاوض الموقعي”.. أي أنَّ الأقوى يفرِضُ على الأضعف.

أخيراً، أُذكَّر المهتمين بمعرفة حظوظ الفوز لكل من بايدن وترامب في الانتخابات، بمُفارقة موحية ذكرها بروفيسور العلوم السياسية جون ميرشايمر عن دونالد ترامب، مفادها “ميَّال للسِّلم أكثر من الحروب بعكس بايدن”. أختم بعدها بنصيحة لـ”إيباك” سبقت فيها سيوف الواقع العذل “فوز ترامب المحتمل جدّاً بحسب الاستطلاعات خدمة للعالم وللمنطقة العربية على المدى المتوسط. ترامب الرئيس سيكون بروتوس. لن تنفع الـخمسة عشر ملياراً السنوية في الحِفاظ على نسبة المصوِّتين الذهبية؛ الخمسين في المئة حتى لو عاد شكسبير للحياة. مستقبل اللوبيات في أميركا تغيَّر. ترامب سيأخذُ ثمن أكل فلسطين وطرد المهاجرين غالياً.. تنوُّعٌ عرقي غير محمود”.

مسار عبد المحسن راضي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى