في مقابلة تلفزيونية قريبة، تكرّر إعلامية محاورة وبألم عميق، عبارة “الجمهور السوري قاسي قاسي قاسي”، هل نحن السوريين فعلاً قساةٌ في محاكمتنا للآخر المختلف؟ أم أنها ظاهرة طاغية بشيوع تشكُّل المجتمع الكوني المفتوح، الذي كان يوماً ما واقعاً افتراضياً، لكنه تحول شيئاً فشيئاً إلى واقع حقيقي بل ربما يكون الأكثر حقيقية من سواه.
نعم نحن السوريين قساة جداً في نقد بعضنا بعضاً، ربما بسبب الحياة القاسية والبائسة والمعجونة بالألم المديد الذي عشناه، تحت سطوة سلطة ما فتئت تجلدنا وتفتك بنا منذ ما يزيد على خمسين سنة، وتضاعفت هذه الظاهرة عدة مرات بشكل حاد، منذ بدء الثورة وخروج قطاعات واسعة من السوريين خارج سيطرة النظام، وسطوة أجهزته الرقابية والأمنية، لكن مراكز الرصد والمتابعة العالمية، تؤكد أننا لسنا بِدْعاً بين الأمم، ولسنا متفردين في هذه المَثلبة، فظاهرة العنف المتصاعد باطّراد عالٍ في وسائل التواصل الاجتماعي تعتبر ظاهرة عالمية بامتياز.
ولو عدنا إلى حالتنا السورية كونها تعنينا بشكل أكثر مباشرة، سنجد أن مفردات الشتم والتخوين والتنمر والاتهام بأشنع الصفات الشخصية، تخرج في كثير من الأحيان عن إطار الموضوع محل الخلاف أو الاختلاف، كأن نصف متطرفاً في مذهب أدبي بأنه لصّ.
ونحن كما يفعل غيرنا ننتقد كل تكوين جديد أو تيار محدث، أو محاولة لاجتراح أي شيءٍ قد يفضي إلى الخروج من الاستحالة والإقفال الذي يعانيه المشهد السوري، تقابل هذه المحاولة في كثير من الأحيان، بمواجهة حادة تدهش الناظر وربما تصيب العديد من الذين يفكرون بالمبادرة، بالشلل، خشية ما قد يلقاه من زحوف الناقدين المحتقنين الذين ينتظرون أي ظاهرة ليصبوا جام غضبهم المخمر عليها وعلى صاحبها.
ولا يخفى على متابع ما للتحزبات الفكرية والثورية والسياسية والدينية والطائفية، من بالغ الأثر في إذكاء هذا العنف، ويكفي أن تنظر في تغريدة أو منشور فيسبوكي أو بودكاست، لترى مقدار الهجوم الذي يتحول في بعض الحالات إلى بربري، لا ينتظر صاحبه أن يقرأ أو يتمعن بالمادة التي تم الهجوم عليها، بل سرعان ما يبادر محاكاة وتقليداً لنظرائه الغاضبين، فيصب سيل اتهاماته وشتائمه، ويخلط الخاص بالعام بشكل عدمي، وربما نجد أفراداً أدمنوا هذا الضرب من تفريغ الطاقات، ذاع صيتهم وأصبحوا مبرزين في هذا الفن الجديد، وهم في أعلى حالات الاستعداد لشيطنة الآخر، حتى إن لزم الأمر لتكرار ما تقوله أجهزة أمنية يعاديها أصلاً.
سنجد أننا كسوريين وبفعل القمع الطويل الذي تعرض له مجتمعنا وما يزال، ما زلنا نفتقر إلى تجارب تمارس فيها الحرية الإعلامية، وسنلمس أن هناك موضوعات تتقدم على غيرها، في إشعال ثورات هذا الفضاء ولإذكاء معاركه، كطرح قضايا دينية حساسة لدى عموم الناس، وقضايا تتعلق بالثورة تأريخاً ورواية وتصنيفاً ومآلات.
وإذا قارنا بين اللغة والتصعيد النفسي والعصبي الذي يستخدم عموماً عندما يصطدم كتف عابر بكتف آخر، بنظيره حين تصطدم سيارة بأخرى أو توشك على ذلك وحسب، لوجدنا أن هذه اللغة والتصعيد يتواءم طرداً مع خطر الموضوع والمشكلة أو بساطتها، فقضية الثورة على سبيل المثال، كلفت شطراً واسعاً من مناصريها أرواحاً ودماء ودمرت حيواتهم وهجرتهم من بيوتهم وجعلتهم نهب الضياع في بلاد لم تتقبلهم بعد، وإلى اليوم هم يشبهون البدو الرحل في سعيهم لاستقرار مفقود، يرافقه عوز وصعوبة قصوى في تدبر الحدود الدنيا لمتطلبات العيش الكريم، شطر كبير من هؤلاء لم يبق له من دنياه غير مجد الثورة يتعلق به ويبرر ما آل إليه، فكيف تراه إن هو لاقى من يتهم ثورته أو يقترح عليها حلولاً متخاذلة، أو يتكسب منها وينمي أرصدته كما يفعل تجار الحروب والسياسة.
لقد أتاحت وسائل التواصل الكثيرة، القدرة لكل أحد مهما علا شأنه أو قل أن يكون له صوت مسموع، والأدهى من ذلك أن الترويج للتفاهة بات اليوم عنواناً رئيسياً للعصر الذي نحياه، والذي تغيب فيه لغة الحوار وتشيع شيطنة الآخر مجاناً، الأمر الذي انعكس على قدرة كثيرين على إشاعة لغة الكراهية وتداول الروايات المكذوبة، وباتت تلك المنصات تستهلك الشطر الأكبر من طاقات الشباب الذي يعاني من تشتت كبير في بلدان المهجر، ولديه طاقة هائلة من الغضب والإحساس بالتهميش وبالخذلان، الأمر الذي يستجيب له بلغة عدمية واتهامات نارية متنمرة، وتحرش وتحريض مباشر على أنواع كثيرة من العنف المباشر وغير المباشر، وتصريحات تبتعد في كثير من الأحيان عن لغة الحقائق والمنطق، ولا تزيد المشهد إلا قتامة.
جميع ما سلف ينبغي أن يستنهض همم المتخصّصين في مواقع التواصل أو المؤثرين عبرها، لتعزيز دور لغة الحوار، وتصحيح المعلومات الخاطئة المتداولة على أنها حقائق، واجتراح آليات للمحاسبة القانونية، في كثير من الحالات التي تفضي إلى إساءة شخصية أو عامة، وأذية ربما يصعب علاجها، يبقى الطريق إلى التعافي أو الاقتراب من حالة استعادة التوازن، والتصرف بعدالة ومسؤولية، مناطة بالتحوّل العام على المستوى المحلي والعالمي، وإن كان الاتجاه العام ينجرف بقوة وقسوة وتسارع مبهر بعكس هذا الاتجاه.