إن أردنا أن نعدّ قائمة بمكاسب النظام من جراء تأزّم أوضاع السوريين في لبنان، فلن نحصل على قائمة قصيرة. لذا يبدو مثيراً للاستغراب، ذاك التساؤل الذي طرحته بعض التقارير الإعلامية، حول سبب عدم قيام النظام بـ “واجبه” تجاه “مواطنيه” في لبنان، في ضوء تفاقم الاعتداءات والتضييق عليهم.
حتى ذاك البيان الباهت الصادر عن سفارته في بيروت، والذي استنكر الاعتداءات التي طالت سوريين، لم يخلُ من ابتزاز سياسي. ففيما كان النظام يتحدث عن “تسييس ملف النزوح” من جانب الدول المانحة وبعض المنظمات الدولية المعنية، لم يضيّع الفرصة للتصويب على العقوبات الغربية، تحت مسمى “الإجراءات القسرية الأحادية المفروضة على الشعب السوري”، والتي تشمل آثارها السلبية، حسب وصفه، “المواطن السوري واللبناني”.
هل يعني ذلك أن جريمة قتل المسؤول في حزب القوات اللبنانية، باسكال سليمان، والتي أدت لتصاعد خطاب الكراهية والعنصرية والاعتداءات على السوريين، تحمل بصمات النظام، كما رأت المعارضة السورية؟ لا نعرف. ولا نستطيع الجزم –جنائياً- بالمسؤول الفعلي عن هذه الجريمة. لكن ما يمكن الجزم به، هو مسؤولية النظام المباشرة عن إغراق لبنان، بالفارين من مناطق سيطرته، من خلال معابر غير شرعية، تخضع من الجانب السوري، لسيطرته شبه الكاملة. كما ويتحمّل النظام المسؤولية عن تحوّل تلك المعابر إلى قنوات لعبور كل شيء، حتى المتورطين بأفعال جُرمية، وبالاتجاهين، إن تم دفع “المعلوم” لحواجز الفرقة الرابعة، حسبما بات معلوماً ومؤكداً، بموجب عشرات الشهادات من مصادر أهلية محلية، من الضفتين، السورية واللبنانية.
فرار السوريين إلى لبنان، أو إلى أي مكانٍ آخر يُتاح لهم، بات استثماراً للنظام وميليشياته. أحد وجوهه، اقتصاد التهريب والجريمة المنظّمة على ضفَتي الحدود السورية – اللبنانية، الذي يشكّل مصدر تمويل للمقاتلين الموالين له –خاصة الفرقة الرابعة-. لكن لهذا “الاستثمار”، وجوه وأهداف أخرى.
أحد أبرز أهداف ومكاسب النظام، فيتمثّل في ابتزاز الغرب، عبر تحويل لبنان إلى قناة مرور للسوريين إلى أوروبا المذعورة من تدفق المهاجرين إليها.
وفيما يتفاقم خطاب الكراهية حيال السوريين في الشارع اللبناني، وسط تساهل السلطات تجاه الاعتداءات عليهم، ودعوات العقاب الجماعي لهم، وصولاً إلى اضطرارهم للاختباء في منازلهم، في بعض المدن والقرى، يعدُّ النظام أرباحه. وأحدها، تكويع قوى لبنانية مناوئة له، نحو خطابٍ ستكون خواتيمه، طرق أبواب النظام بدمشق. وتلك على الأرجح، هي المقدمات التي يمثّلها ذاك الخطاب الشعبوي العنصري، الذي طغى على لسان سمير جعجع، رئيس حزب القوات اللبنانية، في تصريحاته الصادرة قبل أسبوع.
أما أحد أبرز أهداف ومكاسب النظام، فيتمثّل في ابتزاز الغرب، عبر تحويل لبنان إلى قناة مرور للسوريين إلى أوروبا المذعورة من تدفق المهاجرين إليها. وفي هذا السياق، نذكر تصريحاً لوزير البيئة اللبناني، الدكتور ناصر ياسين، خصّ به “تلفزيون سوريا”، قبل نحو أسبوعين، إذ قال إن “الوقت بات مناسباً لحل أزمة اللجوء السوري عبر الضغط على المجتمع الدولي بدعم عملية النهوض المبكر في المناطق والمدن السورية، مصحوباً قبيل ذلك بضمانات من النظام السوري لعودة آمنة، مما يحفّز على العودة ويعجّلها”. وهو عينُ ما يريده النظام. أن يتفاوض الغرب معه للحصول على ضمانات لعودة اللاجئين، يقابلها إعادة إعمار تحت عنوان “التعافي المبكّر”.
والنظام لم يخفِ ذلك يوماً. فمعادلة “الإعمار مقابل عودة اللاجئين”، كانت معلنة في خطاب مسؤوليه، -وصولاً إلى رأس الهرم، بشار الأسد، شخصياً-، خلال تصريحاتهم الكثيرة، خاصةً مع إطلاق المبادرة العربية المشروطة للتطبيع مع النظام، قبل نحو عام. نذكر في هذا السياق، تصريح الأسد في المقابلة الشهيرة له، مع قناة “سكاي نيوز عربية”، في آب/أغسطس الفائت، حينما تساءل: “كيف يمكن للاجئ أن يعود من دون ماء ولا كهرباء ولا مدارس لأبنائه ولا صحة للعلاج؟ هذه أساسيات الحياة”. ليقولها بصراحة، أنه يفاوض المنظمة الأممية بهذا الخصوص: “بدأنا نناقش معهم بشكل عملي مشاريع العودة، وكيفية التمويل، وما هي متطلباتها بالتفاصيل”.
ومع تعثّر مسار “التطبيع” العربي معه، والفيتو الأميركي ضد الانفتاح عليه دون مقابل، أصبح فرار السوريين من مناطق سيطرة النظام، “استثماراً” أكثر إلحاحاً بالنسبة له. وهو ما بدأ يُؤتِي أُكُلَه، جزئياً، متمثّلاً، بمبادرة بعض دول الاتحاد الأوروبي، للاتصال بالنظام، والدعوة لإعادة تقييم بعض المناطق في سوريا، كـ “مناطق آمنة”، تمهيداً لإعادة لاجئين سوريين إليها. وفي هذا السياق، تندرج زيارة رئيس المخابرات الرومانية إلى دمشق، حيث التقى الأسد ومدير مخابراته العامة –حسام لوقا-، وبجعبته رسالة مشتركة من رومانيا وقبرص واليونان وإيطاليا، تشير إلى حرص هذه الدول على إعادة الاتصال مع النظام، من جراء قلقها من تفاقم موجات اللاجئين، وفق ما كشف “تلفزيون سوريا”، قبل أيام.
وإن لم يفلح “استثمار” فرار السوريين من مناطق سيطرة النظام، في تحقيق الأهداف الكبرى لهذا الأخير، يكفي –بالنسبة له- أنها تدعم “اقتصاد الحوالات”، الذي بات ركيزة حياة هذا البلد. وهو ما يفسّر تبسيط إجراءات السفر واستصدار الجوازات من جانب النظام، في الآونة الأخيرة.
وهكذا يُبدع النظام في خلق الأزمات وإدارتها. وهو مولع بهذه الاستراتيجية، منذ نشأته. إذ يوفّر الظروف لخلق أزمة ما، في الداخل، أو في إحدى دول الجوار، ومن ثم يعمل على الاستثمار فيها، بأفضل ما يستطيع. لتصبح حياة السوريين في ظله، سلسلة لا تنتهي من الأزمات.