حمل الاتصال الهاتفي الذي جمع رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان وقائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان رسائل مهمة يمكن أن تمهد لمناخ تفاعلي يقود إلى حل الحرب في السودان.
أبرز الرسائل أن الإمارات لا تعرقل الحل في السودان. وعلى العكس فهي الأقدر على صناعته وتوفير شروط نجاحه. تركت أبوظبي الفرصة لمنصات أخرى أفريقية وغير أفريقية لتتحرك وتستنفد محاولاتها، والآن تتدخل هي بأسلوبها وعلاقاتها.
الإماراتيون تدخلوا عن طريق فاعلين إقليميين لحل أزمة السودان وبمقاربة لا تقف عند وقف إطلاق النار، وإنما تنظر إلى مستقبل السودان بتعميق علاقاته الأفريقية بدلا من تنقل البرهان ورموز مؤسسة الجيش إلى موسكو أو أنقرة أو الجزائر من دون تحقيق أيّ نتائج لأنهم يبحثون عن حل في المكان الخطأ.
صار للإمارات حضور استثماري ودبلوماسي قوي في أفريقيا، وصارت كلمتها مسموعة، وسبق لها أن نجحت في إنهاء صراع تاريخي طويل الأمد بين إثيوبيا وإريتريا، ولن يصعب عليها التأثير في مسار إنهاء الصراع في السودان إذا وجدت آذانا مصغية من الفاعلين من طرفي الحرب الرئيسيين، أي الجيش وقوات الدعم السريع، وإذا رغب السودانيون في إنهاء لعبة المغالبة وقبلوا بالالتفات إلى الحقيقة واستثمروا هذه الفرصة.
ليس ثمة ما يمنع السودانيين من أن يسلكوا الطريق الذي سلكته أديس أبابا وأسمرة والذهاب بالمصالحة إلى منتهاها، خاصة أنها يمكن أن تضع السودان في قلب نهضة إقليمية مدعومة باستثمارات خليجية، وعلى رأسها استثمارات الإمارات، التي استفادت منها إلى حد الآن بلدان أفريقية مختلفة مثل إثيوبيا وكينيا.
الفرصة التي يوفرها دخول الإمارات على خط الأزمة في السودان قد لا تتكرر، وميزتها أنها تتيح للسودان مناخا إيجابيا لا يكتفي بالسعي لوقف الحرب، وإنما يدمج البلد في مسار تنموي أشمل تعمل عليه الإمارات من خلال استثماراتها الواسعة في أفريقيا، وهو ما لا توفره أيّ منصة أخرى من المنصات التي تستقبل مسار التفاوض السوداني – السوداني.
ومنذ 2011، ضخت الإمارات حوالي60 مليار دولار استثمارات في أفريقيا شملت مختلف القطاعات، في قارة واعدة وتعرف تنافسا شديدا بين القوى التقليدية والقوى الصاعدة، فما الذي يمنع السودانيين من أن يستقطبوا جزءا من تلك الاستثمارات التي ينتظر أن تتضاعف أكثر فأكثر، وهم يملكون مقومات كبيرة تجذب المستثمرين من موقع على النيل وعلى البحر الأحمر وفرص واعدة زراعيا.
سيكون دخول الإمارات على خط التسوية في السودان فرصة لاختبار رغبة البرهان في الحل ومدى استعداده للتضحية بالمزايا الشخصية ومدى قدرته على التخلص من نفوذ الإسلاميين في الجيش الذين يعيشون على فكرة الهروب إلى الأمام باستمرار، وصناعة أعداء وهميين حتى يعيقوا وصول السودانيين إلى السلام وبناء مؤسسات يمكن أن تفتح التحقيق عن الماضي وآلامه وتحمّل كل طرف مسؤولياته من الجيش والدعم السريع وبقية الأطراف التي كانت في الحكم منذ حكم الإنقاذ في 1989 وصولا إلى مرحلة ما بعد سقوط البشير وتفاهمات السلام الهش ومن بدّدها لأجل أجندات داخلية أو خارجية.
بنى البرهان سرديته في استعداء الإمارات على فكرة دعمها لقوات الدعم السريع، وهو اتهام فضفاض لتبرير عجزه عن الحسم العسكري على الأرض، وفي نفس الوقت لكسب الإسلاميين إلى صفه ومنعهم من الانقلاب عليه، مستفيدا من عداء بافلوفي لديهم ضد الإمارات وما يتعلق بها وتصديق أيّ اتهام يوجه إليها حتى لو كان لا يصدقه عقل ولا يسنده تحليل.
الإمارات كان لها دور في تهدئة ملفات إقليمية أخرى، وكانت أول من انسحب من تشابكات الربيع العربي ودعّمت مسارات الحل السياسي في اليمن وليبيا ضمن مقاربة أشمل تقوم على تصفير المشاكل للتفرغ للقضايا الأهم بالنسبة إلى الإمارات، وهي قضايا تتعلق بالنفوذ الاقتصادي وبناء شراكات متنوعة ومتكافئة تحولها إلى لاعب رئيسي شرقا وغربا.
إذا كانت الإمارات قد غادرت مختلف تلك التشابكات فلماذا تصر على السودان؟ سؤال إنكاري يظهر أن البرهان ومن في صفه من قيادات الكيزان يلجأون لصناعة عدو وهمي لتبرير الحرب والإيحاء بأنها مفروضة عليهم. والحقيقة أن هذا الأسلوب معتمد لدى الإسلاميين في السودان منذ وصول جبهة الإنقاذ التي قادها الراحل حسن الترابي إلى السلطة. في كل مرة تصنع الجبهة/الدولة لنفسها عدوا وهميا لإظهار نفسها في موقع المظلوم والمستهدف من قوى محلية وخارجية. وهذه خاصية لدى تفرّعات الإخوان المسلمين في كل مكان. لا أحد من قادة هذا التيار يلتفت إلى نفسه ليسألها إن كانت هي من أخطأت أو تسرّعت وأن عليها أن تعدّل أو تتنازل وتبحث عن أرضية مشتركة مع من يحيط بها.
سحبت الإمارات بموقفها الداعم لوقف الحرب، وبشكل واضح وقاطع، البساط من تحت أقدام البرهان والقادة العسكريين الباحثين عن التصعيد، ووضعتهم أمام الأمر الواقع.
ذكرت وكالة أنباء الإمارات الرسمية (وام) الخميس أن الشيخ محمد بن زايد أكد خلال اتصال هاتفي مع البرهان “حرص دولة الإمارات على دعم جميع الحلول والمبادرات الرامية إلى وقف التصعيد وإنهاء الأزمة في السودان الشقيق بما يسهم في تعزيز استقراره وأمنه ويحقق تطلعات شعبه إلى التنمية والرخاء”.
لم تعد تفيد قادة الجيش السوداني المزايدات الكلامية في الإعلام أو أمام مجلس الأمن للهجوم على الإمارات. صار عليهم أن يقولوا للسودانيين إن كانوا راغبين في السلام أم لا، وهل هم مستعدون لتقديم التنازلات مثلهم مثل غيرهم لإنجاح مسار الحل برعاية أفريقية، والتوقف عن الاشتراطات والهروب إلى الأمام. والأمر نفسه موجه إلى قادة قوات الدعم السريع وإلى مختلف الفصائل القبلية المسلحة والتيار المدني والشخصيات المستقلة لخلق تيار داعم لوقف الحرب وبناء السلام.
ماذا ربح السودانيون من الحروب التي تستمر منذ عقود، وإن تعددت أسماء الخصوم، وكان من أحد نتائجها انفصال جنوب السودان وتحوّله إلى دولة مستقلة، ويمكن أن يتعرض البلد إلى التفتيت ونشوء كيانات صغيرة أخرى خاصة مع زيادة منسوب الغضب لدى العرقيات والقبائل المختلفة.