السودان: أزمة سياسية وإشكالات عميقة في رؤية الدولة
الديمقراطية في السودان فكرة غير راسخة بشكل كاف وهو ما يعزز من أزمة الثقة في النظام السياسي حيث يرى الكثيرون أن الديمقراطية ليست سوى شعار يستخدم لتحقيق مصالح سياسية ضيقة
شهد السودان تطورات دراماتيكية في 15 أبريل 2023، وهو تاريخ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، مما أبرز أزمة سياسية حادة وألقى الضوء على ارتباك عميق في رؤية الدولة. هذا اليوم لم يكن مجرد تحول في الأحداث، بل كان بمثابة مؤشر على أزمة عميقة تجتاح المشهد السياسي السوداني، والتي تتجلّى من خلال هشاشة الطرح السياسي وعدم التجانس في الممارسات.
تعاني الساحة السياسية في السودان من فوضى شديدة، حيث يظهر التباين بين الخطاب والممارسة بوضوح. الأحزاب السياسية والمكونات المختلفة تتنازع في ما بينها دون توافق حول رؤية أو إستراتيجية واضحة. هذا الانقسام يعزز حالة من عدم الاستقرار، حيث يكون من الصعب تحديد أولويات وطنية واضحة أو بناء توافق حول الأهداف الإستراتيجية. فالأحزاب التي تروّج لإصلاحات وتغيير تجد نفسها في موقف متناقض، حيث تفتقر إلى التنسيق الفعّال والقدرة على تحقيق التزاماتها المعلنة. النتيجة هي تفاقم الفجوة بين ما يتم الإعلان عنه كأهداف سياسية وما يتم تحقيقه على أرض الواقع، مما يعزز من حالة الارتباك والجمود السياسي.
تُعتبر الديمقراطية في السودان فكرة غير راسخة بشكل كافٍ، وهو ما يفسّر الدعم الذي تلقته الانقلابات العسكرية من بعض الأحزاب التي تدّعي الالتزام بالقيم الديمقراطية. بينما تُظهر هذه الأحزاب تأييداً لأسس الديمقراطية في الخطاب، نجد أنها تدعم في الواقع التغيرات العسكرية التي تتناقض مع المبادئ الديمقراطية الأساسية. هذه المفارقة تعزّز من أزمة الثقة بالنظام السياسي، حيث يرى الكثيرون أن الديمقراطية ليست سوى شعار يُستخدم لتحقيق مصالح سياسية ضيقة، بينما يتم تجاهل قيمها الأساسية في الممارسة اليومية.
في سياق الأزمات، تنقسم المجتمعات إلى مجموعات تتباين في طرق تعاطيها مع الأحداث. من أخطر هذه المجموعات تلك التي تدّعي المظلومية وتحمّل الآخرين مسؤولية الأزمات، معتبرةً نفسها مركز الألم والحزن بناءً على خلفيات مناطقية أو قبلية. هذه المجموعة تخلق انقسامات عميقة تعرقل الجهود المبذولة للتوصل إلى حلول شاملة. فالاضطراب الاجتماعي الذي ينجم عن هذا التصور يعزز من شعور الفئوية والتمييز، مما يؤدي إلى تصاعد الصراعات بدلاً من التوصل إلى حلول متكاملة للأزمات. فهذه الانقسامات تؤدي إلى تعزيز الانعزالية بدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية والتعاون.
الواقع الحالي في السودان لا يمكن اختزاله في مسميات جغرافية مثل الشريط النيلي أو الساحلي أو الحزام الجبلي، بل هو نتاج لأخطاء معرفية عميقة تتعلق بفهم طبيعة الحكم والإدارة. فالأزمات التي يعاني منها السودان هي نتيجة لفشل في إدراك وتطبيق مبادئ الإدارة الفعّالة. وعلى سبيل المثال، الحركة الإسلامية التي كانت جزءاً من التشكيل السياسي في السودان ساهمت في تعزيز المظالم وعدم الاستقرار، بمشاركة أفراد من جميع أنحاء البلاد. وبدلاً من أن تكون الدولة المركزية ناتجة عن توافق وطني أو بناء على أساس جغرافي محدد، نشأت كنتيجة لأخطاء في فهم طبيعة الحكم والإدارة، حيث أُهملت المبادئ الأساسية للإدارة الجيدة.
ما يُعرف بـ“دولة 56” يعكس بوضوح غياب المشروع الوطني وتوارث الفشل الذي بدأ منذ عهد دولة الخليفة عبدالله التعايشي. فقد اعتمد التعايشي على مرجعية وسند قبلي وديني لترسيخ المظالم التاريخية، مما أدى إلى تفشي العنف القبلي والاستعلاء الديني. فأحداث عام 1956، التي تمثل بداية استقلال السودان، جاءت محملةً بضغائن الاضطهاد التي مارستها دولة الخليفة عبدالله التعايشي، مما ألقى بظلاله على بداية مرحلة جديدة في تاريخ البلاد. وعلى غرار ذلك، نشأت دولة الإخوان المسلمين في عام 1989، والتي أعادت إنتاج ذات السياسات والإشكاليات التي تسببت في الأزمات المستمرة.
الأزمة في السودان ليست مجرد مسألة مناطقية، بل تحمل أبعاداً اجتماعية واقتصادية وثقافية عميقة. والتحديات الاقتصادية مثل الفقر والبطالة تتسبب في تفاقم الانقسامات الاجتماعية، حيث يصبح من الصعب على المواطنين تحقيق الاستقرار والازدهار. بالإضافة إلى ذلك، تلعب العوامل الثقافية دوراً مهماً في تعميق الأزمات، حيث أن التباين الثقافي بين المجموعات المختلفة يساهم في تعزيز الانقسامات بدلاً من تسهيل التوصل إلى حلول مستدامة. فالتفاوت في الفرص والموارد بين المناطق والقبائل المختلفة يؤدي إلى تعميق شعور الاستياء وعدم الثقة في النظام، مما يعوق جهود بناء مجتمع متماسك ومزدهر.