نشرت مؤسسة “كونراد إديناور/ Konrad Adenauer Stiftung” الألمانية تقريرًا أعدَّته “كارولين هاوبتمان/ Caroline Hauptmann”، رئيسة مكتب العلاقات الخارجية في السنغال التابع للمؤسسة، سلَّط الضوء على أنه في الرابع والعشرين من مارس 2024م، انتخبت السنغال بأغلبية ساحقة الوافد السياسي الجديد “باشيرو ديوماي فاي” رئيسًا خامسًا للبلاد منذ أن نالت استقلالها. وبعد مرور عشرة أيام تقريبًا، وفي الثاني من أبريل 2024م، أدَّى “فاي” اليمين رسميًّا، وبدأ على الفور في تشكيل حكومة جديدة، مُعلنًا عن “قطيعة” مع الحقبة السابقة، وتعهَّد بإجراء “تغيير سياسي جذري”… تُرى، ماذا يمكن أن نتوقع من الحكومة الجديدة؟
بعد حالة من “الإثارة السياسية” التي أحاطت بالانتخابات، تبدو الأحداث المحيطة بـ “ديوماي فاي” و”سونكو” أشبه بقصة سياسية خيالية؛ فهما صديقان ورفيقا درب في الحزب يمضيان الحياة معًا في السراء والضراء، يذهبان إلى السجن بتهمة التحريض على العنف، ثم يُطلَق سراحهما في اللحظة الأخيرة بموجب عفو رئاسي في محاولة لتهدئة المشهد السياسي، وفي النهاية يفوزان أمام 18 مرشحًا آخرين. وبعد 18 يومًا من إطلاق سراحهما، أصبحا الآن على رأس الحكومة؛ من المؤكد أن “ديوماي فاي” لديه رؤية قوية ومشروعًا يريد تنفيذه في مستهل رئاسته.
في ظل هذه الخلفية، كان أداء الرئيس الجديد اليمين الدستورية في 2 أبريل 2024م بمثابة احتفالية خاصة، وإن كانت متواضعة وبجهد أقل بكثير مما كان معتادًا مع عهد سلفه؛ حيث انعقدت مراسم أداء اليمين في مركز مؤتمرات CICAD خارج داكار. لقد أدى “فاي” اليمين الدستورية، وحصل على وسام الأسد الوطنيرمزًا لبدء مراسم سلطته. ثم اصْطُحِبَ رئيس الدولة الجديد إلى القصر الرئاسي برفقة حارس من الخيالة. حيث تسلم رسميًّا مفاتيح القصر الرئاسي، الذي كان يضم بالفعل حُكام السنغال الاستعماريين السابقين. وأخيرًا قال “فاي”: وداعًا لسلفه “ماكي سال”.
في ذات المساء، عين “فاي”، بشكل غير مفاجئ، “عثمان سونكو”(3) رئيسًا للوزراء، والذي أعلن بدوره عن الحكومة الجديدة بعد ثلاثة أيام. وكانت الأسماء المتوقعة للحقائب الوزارية محط انتظار واهتمام بالغين، حيث رأى البعض أن التخفيض الكبير في حجم الحكومة من 34 إلى 25 حقيبة وزارية بمثابة خطوة أولى على طريق التغيير السياسي المُعلَن عنه. والأمر اللافت للانتباه، في ذلك السياق، هو أن الوعد الانتخابي بتخفيف الترهُّل في الجهاز الحكومي طُبِّق مباشرةً. ولكن هذه الخطوة سيترتب عليها أيضًا تحديات، مثل الصعوبة البالغة في دمج الوحدات الإدارية التي كانت مُخصَّصة سابقًا لوزارات أخرى في الهياكل الجديدة.
ومن بين الجهات المتضررة؛ وزارة الجماعات المحلية، التي كانت في السابق مسؤولة عن اللامركزية والتنمية الإقليمية، فعلى سبيل المثال، قامت بتنسيق إدارة المناطق الأربعة عشر. أما الآن فتحتل مسائل اللامركزية أهمية موازية بجانب التوسع الحضري، أي التنمية الحضرية.
وفي هذا الصدد، يتبادر إلى الأذهان تساؤل حول ما إذا كان من الممكن الاستمرار في المطالبات السابقة بمزيد من استقلال الأقاليم، ليس فقط في المسائل المتعلقة بالميزانية، ولكن أيضًا في قضايا الكفاءة. كما ينطبق ذلك، بشكل خاص، على تحصيل الضرائب المحلية، والتي بدونها ستنهار الحكومة المحلية.
أما بالنسبة للشؤون الاقتصادية، فهناك وزارتان جديدتان: وزارة الشؤون الاقتصادية والتخطيط والتعاون ووزارة التمويل المُصغَّر والاقتصاد الاجتماعي والتضامني. وقد يؤدي هذا الأخير تحديدًا إلى اضطرار القطاع الخاص إلى المشاركة بشكل أكبر في الأنشطة الاجتماعية المباشرة. وربما يكون هذا بمثابة أحد أشكال التدخل في السياسة الاقتصادية الليبرالية السابقة.
وبحكم افتقاره للخبرة السياسية؛ سيضطر “ديوماي فاي” إلى الاعتماد على خبرة وزرائه في كثير من الأمور، وبالتالي كان اختيارهم ذا ثقل سياسي كبير؛ حيث اختار عثمان سونكو الأشخاص التالية أسماؤهم:
- ياسين فال، وزيرةً للتكامل الإفريقي والشؤون الخارجية.
- الجنرال بيرام جوب، وزيرًا للقوات المسلحة.
- عثمان جانج، وزيرًا للعدل.
- الجنرال جان باب تيست، وزيرًا للداخلية والأمن العام.
- بيرام سلي جوب، وزيرًا للطاقة والنفط والمناجم.
- عبد الرحمن سار، وزيرًا للاقتصاد والتخطيط والتعاون.
- شيخ ديبا، وزيرًا للمالية والميزانية.
- مالك إنجاي، وزيرًا للبنية التحتية والنقل البري والجوي.
- داود انغوم، وزيرًا للبيئة والتحول البيئي.
- أمادو مصطفى انديك ساري، وزيرًا للتكوين المهني (الناطق الرسمي باسم الحكومة).
- الحاج عبد الرحمن ديوف، وزيرًا للتعليم العالي والبحث والابتكار.
- عليون سال، وزيرًا للاتصال والاتصالات السلكية واللاسلكية والتكنولوجيا الرقمية.
- الشيخ تيديان ديي، وزيرًا للموارد المائية والصرف الصحي.
- سيرين إنجاي جوب، وزيرًا للصناعة والتجارة.
- فاتو ديوف، وزيرة للصيد البحري والبنية التحتية البحرية والموانئ.
- ميمونة ديي، وزيرة للأسرة والتضامن الاجتماعي.
- يعقوب جيمي، وزيرًا للعمل والتشغيل والعلاقات مع المؤسسات.
- بالا موسى فوفانا، وزيرًا للتخطيط العمراني والمجتمعات المحلية والتخطيط الإقليمي.
- مصطفى غراسي، وزيرًا للتربية الوطنية.
- إبراهيم سي، وزيرًا للصحة والشؤون الاجتماعية.
- أوليفييه بوكال، وزيرًا للوظيفة العمومية وإصلاح الخدمة المدنية.
- خديجة جين فاى، وزيرة للشباب والرياضة والثقافة.
- مابوبا جانج، وزيرًا للزراعة والسيادة الغذائية والثروة الحيوانية.
- على جونو، وزيرًا للتمويل المُصغَّر والاقتصاد الاجتماعي والتضامني.
- مونتاجا جاوو، وزيرًا للسياحة والحِرَف اليدوية.
وزراء الدولة :
إلى جانب الوزراء؛ يلعب وزراء الدولة أيضًا دورًا مهمًّا في الحكومة الجديدة، لذلك حظيت أسماؤهم أيضًا باهتمام عام وشعبي كبير. وعملهم تابع للوزارات، لكنهم، بخلاف التسلسل الهرمي، يأتون فوق الهيئات الإدارية الوزارية المختلفة. ويمكنهم تمثيل الوزراء وتحمُّل مسؤولية تنفيذ سياسة الحكومة. وقد سُمِّي السادة التالية أسماؤهم وزراء دولة:
- أمادو شريف ضيوف، وزير الدولة لشؤون السنغاليين في الخارج.
- إبراهيما تيام، كاتب الدولة المكلّف بتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
- موماث تالا نداو، وزير الدولة للتنمية الحضرية والإسكان.
- ألفا با، كاتب الدولة للتعاونيات والإشراف الزراعي.
- بكاري سار، كاتب الدولة المكلف بالثقافة والصناعات الإبداعية والتراث التاريخي.
وكما تُظهِر القائمة، كان الثنائي “فاي” و”سونكو” متوافقين مع مبدأ “القطيعة” المُعلَنة؛ أي مقاطعة التسميات القديمة. وتتألف الحكومة الجديدة من 13 مسؤولًا ينتمون لحزب الوطنيين السابق، وجنرالين، ووزير سابق واحد فقط خدم بالفعل في عهد عبد الله واد، وشخصيات مغمورة نسبيًّا من المجتمع المدني والجامعات. ومن بين قادة حزب “باستيف” ياسين فال، نائبة رئيس الحزب السابق ووزيرة الخارجية الحالية، بالإضافة إلى مدير الحملة السابق والمؤسس المشارك لحزب “باستيف”، برام سلي جوب، وزير الطاقة والبترول والمناجم الحالي.
ويأتي بعض الوزراء الجدد من نفس خلفية “فاي” و”سونكو”، وكان بعضهم مُعتقلاً لفترات طويلة خلال فترة وجود “ماكي سال” في منصبه. ويعتبر تعيين الجنرالين في “الوزارات الأمنية” أمرًا جديدًا، ومع بعض الاستثناءات، يرأس هذه الوزارات حتى الآن محامون أو مسؤولون من ذوي الخبرة المدنية. الجنرال بيرام جوب، وزير الدفاع الحالي، هو رئيس أركان سابق للجيش يتمتع بخبرة دولية، بما في ذلك خبرته في العمل لدى الأمم المتحدة. كما كان للجنرال جان بابتيست تاين، وزير الداخلية الحالي، صاحب مسيرة مهنية متميزة في قوات الدَّرك، وقد تم نقله بعد أعمال الشغب التي حدثت عام 2021م.
ومن بين المسؤولين المخضرمين، لم يصل إلى الحكومة إلا مصطفى غيراسي وزيرًا للتربية الوطنية، وقد كان مدير حملة “فاي” الانتخابية، وكان بالفعل وزيرًا للاتصالات والمتحدث باسم الحكومة في عهد الرئيس عبد الله واد. وهو صاحب مدرسة إدارة مشهورة عالميًّا، وكان عمدة “كيدوغو” وعضوًا في البرلمان، ويمتلك الكثير من الأراضي هناك، ويلتزم بالزراعة المستدامة. ولكن بما أن التعليم هو قضية رئيسية بالنسبة للحكومة الجديدة، فمثل هذا التعيين يثير تساؤلات، لأنه يُنظَر إلى غيراسي على أنه رجل أعمال أكثر من كونه خبيرًا تربويًّا.
من جهة أخرى، قُوبِلَ ترشيح أربع نساء فقط لتولّي حقائب وزارية بالانتقادات. وهذا يعني أن النساء لا يشكلن سوى 13% من الحكومة الجديدة، على الرغم من وجود قانون ينص على تكافؤ الفرص في السنغال والمساواة بين الرجل والمرأة كبند أساسي من بنود الدستور منذ عام 2001م. وقد جرى احترام هذا الحق حتى الآن مِن قِبَل السلطات المنتخبة، أي البرلمان والسلطات المحلية، وإن لم تكن في الحكومة. كذلك وقعت وزارة شؤون المرأة ضحية التخفيضات التي جرت في الحقائب الوزارية؛ وتم دمجها مع وزارة الأسرة والتضامن. “لا يمكن تصور الحديث عن تعميق العملية الديمقراطية دون أن يشارك فيها نصف المجتمع بشكل فعَّال ومتزايد.. كنا نتوقع إجراءات واضحة لنيل حقوقنا وليس إدخال أدوات من شأنها أن تسهم في تهميش أصواتنا النسائية”؛ بحسب تصريحات وانتقادات جمعية Réseau des Féministes Du Sénégal (RFS) .
ولذلك فإن الناشطات في مجال حقوق المرأة يخشين أن تتضرر حقوقهن بشكل أو بآخر، ليصبحن لا يتمتعن بالمساواة في السنغال. تحدثت 254 شخصية من المجتمع المدني والبيئة الجامعية، بالإضافة إلى 17 منظمة لصالح التمثيل المتساوي على الأقل في الهيئات الإدارية الموجودة في الوزارات، وذلك في سياق البروتوكول الرئاسي الجديد في السنغال.
من ناحيته، ربط رئيس الوزراء الجديد “سونكو”، بشكل مباشر، إعلان التعيينات بالإعلان عن أنه سيتعين على جميع أعضاء الحكومة التخلي عن وظائفهم ومناصبهم العامة الأخرى في غضون شهر حتى يتمكنوا من تفريغ أنفسهم بالكامل للأعمال الحكومية. وكان تراكم الوظائف والقيود المرتبطة بها وتأثيراتها على القدرة على تنفيذ المهام أحد الانتقادات الرئيسية التي وُجِّهَت للحكومات السابقة، والتي بموجبها يمكن للوزراء أيضًا أن يكونوا رؤساء بلديات و/أو رؤساء مجالس المقاطعات و/أو برلمانيين.
الوعود الانتخابية على المحك:
والآن بعد أن شُكِّلَت الحكومة، وأصبح لزامًا عليها أن تثبت قدرتها على العمل في الأشهر القليلة المقبلة، يواجه الرئيس الجديد الآن تحديًا خاصًّا يتمثل في وضع وعوده الانتخابية في حيّز التنفيذ. ولكن ما أهم التصريحات التي سجّل بها وعودًا لدى الشعب السنغالي خلال الحملة الانتخابية، وما مدى واقعية إمكانية تنفيذ هذه الرؤى السياسية سريعًا؟
1– تكاليف المعيشة
يُعد ارتفاع تكاليف المعيشة إحدى الإشكاليات الأكثر إلحاحًا التي تواجه المواطنين السنغاليين، ويرجع ذلك، في الأساس، إلى الزيادات الهائلة في أسعار السلع الغذائية الأساسية المدعومة؛ إذ يتم الاعتماد بشكل رئيسي على استيراد القمح من أوكرانيا وروسيا. كما أنه من الصعب تحويل الحبوب المحلية إلى خبز لافتقارها إلى بروتين الجلوتين؛ حيث يُصنَع الخبز المحلي من دقيق الذرة والدخن أو دقيق الكسافا أو حتى الكاجو المضغوط، لكنه لا يجد رواجًا لدى السكان، وإنما الغذاء الأساسي بامتياز هو كَسر الأرز الأبيض، والذي يُعدّ أيضًا السبب الرئيسي في ارتفاع معدل الإصابة بمرض السكري في البلاد.
إن زراعة الأرز الحالية في دلتا النهر في الشمال والجنوب ليست كافية لتلبية الاحتياجات المحلية. بالإضافة إلى ذلك، ترتفع تكلفة زراعة هذه الأنواع من الأرز في بعض الأحيان مقارنةً بالواردات الرخيصة من الصين والهند. وتشمل الأطعمة الأساسية الأخرى زيت الصويا وزيت دوّار الشمس، وكلاهما منتجان لا يُزرعان في السنغال. وكذلك انخفضت زراعة الفول السوداني بشكل كبير، والتي كانت مُربحة للغاية في السابق لإنتاج زيت الطهي؛ نظرًا لتقلص مساحات الأراضي الزراعية وانخفاض الأسعار في السوق العالمية. ولكن ارتفاع أسعار المواد الغذائية ليست المشكلة الوحيدة فحسب، بل أيضًا أسعار الإيجار والنقل، التي ارتفعت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، والتي أصبحت تُشكّل في الوقت الراهن معوقات وجودية أمام العديد من السنغاليين. وخلال الفترة ما بين عامي 1994م و2014م فقط، ارتفعت أسعار الإيجارات في داكار بنسبة بلغت 256%.
2- إدارة الموارد
قال الرئيس “فاي” في اليوم التالي لأدائه اليمين: “سأبدأ في الكشف عن الملكية الحقيقية لشركات التعدين”. هذه قضية مهمة بالنسبة للناخبين؛ حيث حامت الشكوك منذ فترة طويلة في أن الحكومة السابقة لم تمثل مصالح السنغال بشكل كافٍ في ذلك السياق. بالإضافة إلى ذلك، كان من الشائع منح حقوق تعدين الذهب دون استشارة السكان المحليين أو تعويضهم بشكل مناسب. كان على هؤلاء أن يفسحوا المجال أمام شركات التعدين. توجد بالفعل منصة تسمى ” “Initiative pour la Transparence dans les Industries Extractives du Sénégal” (“ITIE”)، والتي أُدرِج الترخيص فيها. ولكن، مَن يقفون خلف ذلك بإمكانهم إحداث مفاجآت غير متوقعة؛ لأن التراخيص تُمنَح مِن قِبَل الدولة وليس من المعروف حتى الآن من الذي استفاد بالضبط (وإلى أي مدى) من هذه الفرص والمِنَح. والأمر المثير للاهتمام أيضًا في هذا السياق هو تخفيف بيان “فاي” الأصلي، لأنه تم الإعلان خلال الحملة الانتخابية، على الملأ، عن أنه سيُعَاد التفاوض على جميع العقود مع الشركات والشركاء الدوليين، بحيث تستفيد السنغال منها بشكل أكبر. ومع ذلك، ربما لن يكون ذلك ممكنًا إلا بالنسبة للعقود المُبرمة حديثًا. ولا تتمتع السنغال بكفاءة ذاتية في مضمار تنمية مواردها. ورغم إنشاء دورات تدريبية في السنوات الأخيرة لتدريب المهندسين والعُمال المهرة، إلا أن التعليم والتأهيل يشكلان استثمارًا طويل الأجل لن يؤتي ثماره إلا بعد سنوات.
3– الإصلاح القضائي ومكافحة الفساد
يُعد إصلاح القضاء ومكافحة الفساد أحد البنود الرئيسية التي جاءت ضمن برنامج الحكومة الجديدة السياسي. وفيما يتعلق بالسلطة القضائية، يتلخص الهدف الرئيسي في استعادة ثقة السكان المفقودة من خلال إصلاحات منطقية ومقبولة. وهذا ينطبق أيضًا على النظام الانتخابي؛ وقد أُجري بالفعل إصلاحات هيكلية عدة مرات بهدف الحد من عدد المتقدمين إلى مستويات يمكن التحكم فيها. وهي عملية موثوقة في حد ذاتها، لكنها أيضًا معقدة للغاية. الخطوة الأولى لضمان استقلالية الانتخابات في المستقبل تتمثل في اقتراح الحكومة بحل الهيئة الانتخابية (CENA)، الموجودة منذ عام 1997م. وعلى الرغم من أنها كانت تتمتع بالحكم الذاتي، إلا أنها كانت تابعة لوزارة الداخلية. ومن المقرر أن يتم استبدالها بـ “مؤسسة مستقلة” جديدة، وفقًا للحكومة الجديدة، تسمى اللجنة الانتخابية الوطنية المستقلة.
كما ينبغي أيضًا مكافحة الفساد اليومي في السنغال من خلال تدابير ملموسة. لقد تم بالفعل تكليف محكمة المراجعين السنغالية والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والاحتيال (OFNAC) بإعداد ونشر تقارير عن مزاعم الفساد في عهد الحكومة السابقة، ومع ذلك، كان هناك ما لا يقل عن عشرة تقارير منذ عام 2022م ظلت طي الكتمان والأدراج المغلقة. وقد أعلنت الحكومة الجديدة بالفعل عن نشرها الوشيك. ويتوقع العديد من المراقبين أن تحتوي هذه التقارير على بعض المفاجآت السياسية الشائكة. بالإضافة إلى ذلك، وعد الرئيس “فاي” أيضًا بتعزيز شامل لعمل المؤسسات الأخرى المٌكلفة بمكافحة الفساد.
4– الارتقاء بالتدريب المهني وتحسين فرص العمل
لقد كان الاستثمار في تعليم وتدريب الشباب السنغالي، وكذلك خلق فرص العمل من الوعود الأساسية التي مكَّنت “فاي” من جذب الناخبين الشباب، تحديدًا، إلى جانبه. وهو الآن من أهم المطالب الشعبية أمام الرئيس الجديد. لقد وعد “فاي” بمراجعة الآليات القائمة المتعلقة بالتعليم والاندماج في سوق العمل. لكن لا توجد خطة عمل واضحة للوفاء بذلك حتى الآن، فقط طلب “فاي” من رئيس الوزراء التأكد من تقديم الخطط المناسبة لتحقيق ذلك خلال الأشهر القليلة المقبلة.
لكن الركن الأساسي في التوظيف يتمثل، قبل كل شيء، في إرساء نظام اقتصادي فعّال قادر على استيعاب العمالة المؤهلة، وهو نظام غير موجود حتى الآن. يعتمد حوالي 90% من اقتصاد السنغال على الهياكل غير الرسمية. علاوة على تهالُك الأنظمة التعليمية التي تقادمت ولم تعد توفر فرص التدريب بما يتماشى مع حاجة السوق. يكاد يكون من المستحيل العثور على عُمال ماهرين ذوي كفاءة عالية ومُدرَّبين تدريبًا جيدًا في مجالات حيوية مثل ميكانيكا السيارات، والصرف الصحي والكهرباء والبناء، وكذلك المهندسين وعمال المناجم، وما إلى ذلك من مهن أخرى، على الرغم من وجود حاجة مُلِحَّة لذلك؛ حيث تلجأ مواقع البناء الكبيرة، في بعض الأحيان، إلى توظيف عمال ماهرين يتم جلبهم جوًّا من شمال إفريقيا أو الصين أو تركيا. ويعمل غالبية المواطنين السنغاليين في قطاع الأعمال غير المستدامة كعمال يوميين أو في قطاع الخدمات (مثل التجارة، وخدمات التوصيل، والتنظيف، وما إلى ذلك). ولا تستطيع الدولة أن تُوظّف كل الشباب من خريجي المدارس والجامعات، لذا ستمثل إعادة هيكلة الاقتصاد مسألة ضرورية بالفعل.
الحكومة الجديدة بين التوقعات المأمولة والإرث السياسي:
لدى الحكومة الجديدة خطط واعدة، وسيتعين عليها ترتيب أوراقها في الأشهر القليلة المقبلة. إن الإصلاحات المطلوبة عميقة وجذرية وستستغرق وقتًا طويلًا، في حين يرغب الشباب في السنغال في رؤية التغيير السياسي في أسرع وقت ممكن. سيتعين علينا أيضًا (ألمانيا) التعامل مع إرث الحكومة السابقة. وتشمل الملفات «الساخنة»، على سبيل المثال، الإصلاح المرجو في تشكيل الأحزاب وتمويلها. ويوجد في السنغال عدد كبير من الأحزاب، مما أدى بالفعل إلى إدخال العديد من التعديلات على القانون الانتخابي.
التحدي الآخر هو الصراع الذي لم يتم حله بالكامل في منطقة كازامانس جنوب البلاد، والذي أعاق التنمية منذ عام 1982م. وتعتبر السنغال إحدى أغنى دول جنوب الصحراء بالموارد، ولكن يتعين عليها أن تتعامل مع حقول الألغام وسرقة الأراضي والتهريب والصراعات الحدودية مع غينيا بيساو وجامبيا.
إن إرث “ماكي سال” الذي تركه لخلَفه “فاي” هو أيضًا التضخم في رواتب الإدارة العامة على مدى السنوات القليلة الماضية، الأمر الذي يُثقل كاهل خزائن الدولة الفارغة، ويجلب معه مطالب نقابية وفئوية في قطاعات أخرى من الاقتصاد التي لم تتلقَّ شيئًا حتى الآن.
لقد غادر الرئيس السابق البلاد مساء تعيين خَلَف له؛ حيث تولى منصبًا جديدًا وهو منصب مدير ميثاق باريس من أجل الشعب والكوكب. وهي مبادرة دولية لتمويل برامج مكافحة الفقر والحفاظ على كوكب الأرض، وكانت نتاجًا للمناقشات التي دارت حول قمم المناخ الكبرى. كما أن وضع “سال” كرئيس سابق يضمن له استمرار الحصول على مدفوعات من الدولة السنغالية، مثل المعاش التقاعدي والتأمين الصحي. وتوفر الدولة أيضًا المركبات والسكن بالإضافة إلى الخَدم وتدفع تكاليف الرحلات الجوية، ويبلغ مجموعها ما يعادل حوالي 20.000 يورو شهريًّا. لقد كان المرشح المفضل لدى “ماكي سال” لخلافته، رئيس الوزراء السابق والمرشح الرئاسي “أمادو با”، لكنه يجد نفسه الآن في دور غير عادي كزعيم للمعارضة.
ومن أجل تحقيق أهدافه السياسية الطموحة، سيحتاج الرئيس الجديد، قبل كل شيء، إلى دعم البرلمان. ولهذا السبب، يرى العديد من المراقبين أنه من المحتمل أن يدعو “ديوماي فاي” إلى إجراء انتخابات برلمانية خلال الأشهر القليلة المقبلة من أجل تأمين الأغلبية المناسبة، وهذا الخيار متاح سياسيًّا أمامه. ولهذا السبب تنطبق الحكمة السياسية القديمة أيضًا على السنغال: ما بعد الانتخابات هو ما قبل الانتخابات
تقرير صادر من مؤسسة “كونراد إديناور