إن السلام مفهوم جذاب، ولكنه بعيد المنال. فقد يعني أشياء مختلفة لأناس مختلفين في أوقات مختلفة. وأوكرانيا مثال واضح على ذلك. فالسعي إلى السلام قد يفضي إلى نتيجتين مختلفتين جوهرياً: إما استسلام على غرار فيشي، ربما مع وقف إطلاق نار مؤقت يمنح روسيا المزيد من الوقت لإعادة تسليح نفسها والاستعداد لهجومها التالي، أو دفاع قوي عن خط المواجهة المتجمد، كما نجد اليوم في شبه الجزيرة الكورية.
إن رؤية الكرملين للسلام في أوكرانيا واضحة. إذ أن القوات الروسية سوف تحتل بشكل مباشر مساحات شاسعة من الأراضي الأوكرانية التي تم الاستيلاء عليها بشكل غير قانوني، وسوف تتلقى الحكومة الأوكرانية المذعنة العاجزة (التي تفتقر إلى أي قدرة عسكرية ذات مغزى) الأوامر من موسكو. وقد حدث شيء مماثل تماما في فرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما كانت الحكومة المتعاونة مع ألمانيا بقيادة الجنرال فيليب بيتان تدير الجزء من البلاد الذي لم يكن تحت الاحتلال الألماني المباشر، وكانت تتلقى الأوامر من برلين.
وعلى هذا فإن الوضع على الأرض في فرنسا كان “سلمياً” طيلة أغلب فترة الحرب العالمية الثانية ــ تقريباً بين عامي 1940 و1944. وكان نظام فيشي بقيادة بيتان يتفاخر بانتظام بأنه حمى فرنسا، في حين كان يلقي باللوم على المقاومة ــ العصابات الفرنسية ــ والغارات الجوية الدورية التي يشنها الحلفاء في أي اضطرابات “للسلام”. وكان هذا الخيار متاحاً لأوكرانيا منذ الساعات الأولى للغزو الروسي واسع النطاق. ولكن بعد أن شهد الأوكرانيون عمليات الإعدام والاغتصاب وغير ذلك من الفظائع التي ارتكبتها القوات الروسية ضد المدنيين في بوتشا وأماكن أخرى، رفضوا الاستسلام على نحو مفهوم.
إقرأ أيضا : ماكرون يطير إلى ترامب لتجنب الكارثة في أوكرانيا
إن البديل هو نوع السلام الذي حافظ على سلام ألمانيا لعقود من الزمان بعد الحرب العالمية الثانية وحافظ على سلام شبه الجزيرة الكورية منذ هدنة عام 1953. وفي كل حالة، تم تأمين السلام من خلال قبول الحدود الفعلية، والتي تم تحصينها بتعزيزات عسكرية دفاعية ضخمة وجنود على الأرض وضمانات أمنية موثوقة. وفي حين تمتعت ألمانيا الغربية بعضوية حلف شمال الأطلسي بعد عام 1955، اعتمدت كوريا الجنوبية على تحالف ثنائي مع الولايات المتحدة. وحتى اليوم، تحتفظ الولايات المتحدة بنحو 28 ألف جندي نشط في كوريا الجنوبية و50 ألف جندي في ألمانيا.
إن مثل هذه الإجراءات الاحتياطية جعلت خط المواجهة السابق في زمن الحرب منيعاً تقريباً، مما سمح لكل دولة متبقية بتعزيز نفسها وتطوير نفسها والبقاء في سلام. إن ما يعادل نموذج ألمانيا الغربية أو كوريا الجنوبية لأوكرانيا اليوم يتطلب تجميد خط المواجهة والانضمام إلى حلف شمال الأطلسي أو نشر عشرات الآلاف من القوات الغربية على الأراضي الأوكرانية.
لقد دفعت الحكومة الفرنسية نحو هذا النوع من الحلول منذ فبراير/شباط 2024، وهي الآن تحتل مكانة بارزة في المناقشات بين الزعماء الأوروبيين. ومع مطالبة الإدارة الأميركية الجديدة أوروبا ببذل المزيد من الجهد لضمان سلامها وأمنها، يقال إن ما لا يقل عن ست حكومات أوروبية تدرس هذا الأمر بجدية.
بطبيعة الحال، إذا كان الأوروبيون يكرهون النموذج الأول (سلام على غرار فيشي) لكنهم أثبتوا عجزهم عن تقديم ضمانات أمنية كافية، فإن هذا من شأنه أن يخلق الظروف لسيناريو ثالث محتمل: سلام زائف يؤدي إلى حرب أخرى. إن وقف إطلاق النار المؤقت – مثل الذي ساد بموجب اتفاقيات مينسك بعد عام 2014 – من شأنه أن يسمح لروسيا بإعادة تجميع صفوفها وإعادة تسليح نفسها ومهاجمة روسيا مرة أخرى عاجلاً وليس آجلاً. وقد تتكرر هذه الدورة أكثر من مرة فحسب؛ بل وقد تشمل دولاً خارج أوكرانيا – مثل دول البلطيق أو بولندا.
وعلى هذا، فإذا لم تحصل أوكرانيا على الدعم الكافي في الأشهر والسنوات المقبلة، فسوف تجد أوروبا نفسها في مواجهة واقع استراتيجي جديد خطير، وهو الواقع الذي من شأنه أن يتحدى تضامن حلف شمال الأطلسي ويترك أراضي الاتحاد الأوروبي عُرضة للخطر إلى الأبد. وبقدر كاف من التحريض والحرب الهجينة، قد تختبر روسيا حدود ضمان الدفاع المتبادل لحلف شمال الأطلسي، فتكشف عن كونه مجرد حبر على ورق، أو تتسبب في تعجيل مواجهة عسكرية مباشرة بين القوى النووية. وهذه هي العواقب المترتبة على السلام الزائف.
إن المهمة المباشرة التي تواجه أوروبا لا تتمثل فقط في توجيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب نحو السعي الأحادي الجانب للتوصل إلى تسوية مع روسيا يمكن أن تقدم أوكرانيا على طبق من ذهب إلى روسيا، بل أيضا في ضمان ألا يؤدي أي اتفاق إلى زيادة احتمال اندلاع حرب أوسع نطاقا في المستقبل القريب.
يعتقد العديد من الأوروبيين أنه إذا لم تتمكن روسيا من غزو أوكرانيا في عام 2022، فلن تجرؤ على تحدي حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. وهذا تفكير متفائل وخطير. فاحتلال معظم أوكرانيا لن يسمح لروسيا بتوسيع أراضيها فحسب، بل سيسمح لها أيضًا بتوحيد أكبر جيشين في أوروبا وثاني أكبر جيشين تحت قيادة الكرملين. وتجلب الأراضي المحتلة أشخاصًا جددًا وقدرات إنتاج دفاعية وموارد – من المعادن النادرة إلى محطات الطاقة الغازية والنووية. ستكون القدرة الصناعية الدفاعية لأوكرانيا – والتي كانت مثيرة للإعجاب في مجالات متعددة، من الطائرات بدون طيار البحرية إلى القدرة الهائلة على إنتاج المعدات بشكل جماعي – بمثابة مكافأة مرحب بها لروسيا أيضًا، ويمكن استخدامها ضد أوروبا. حذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون علنًا بالفعل من أن القوات المسلحة المشتركة لروسيا وأوكرانيا لن يمكن إيقافها.
والخلاصة هي أن تجنب الاستسلام الأوكراني أو السلام المزيف يتطلب التزاماً أوروبياً بتجميد خط المواجهة الحالي على أقل تقدير. وإلا فإن الدول الأعضاء الضعيفة في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي قد تكون الأهداف التالية. ويتعين على الرأي العام الأوروبي أن يستيقظ على حقيقة مفادها أن البديل الوحيد هو شيء لا يريده أحد: التهديد الدائم بالحرب في أغلب أنحاء وسط وشمال أوروبا، مع كل ما يصاحب ذلك من عدم اليقين الأمني والاقتصادي.
نيكو بوبيسكو عضو في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ووزير سابق للشؤون الخارجية في مولدوفا