عشية سقوط عاصمته، صعد بشار الأسد إلى مركبة مدرعة روسية مع ابنه الأكبر حافظ وانطلقا بعيدا، تاركين أقاربه وأصدقاءه ومواليه يبحثون بشكل محموم عن الرجل الذي وعد بحمايتهم.
ولم يمض وقت طويل، وتحديداً في حوالي الساعة الحادية عشرة مساء يوم 7 ديسمبر/كانون الأول، حتى وجد زملاء له قدامى أثناء مرورهم بسيارتهم أمام منزله في حي المالكي الراقي بدمشق نقاط حراسة مهجورة ومبانٍ فارغة إلى حد كبير: كانت الأضواء لا تزال تومض، وأكواب القهوة نصف مملوءة بالقهوة، والزي العسكري لجنود الحراسة والعسكريين العاملين في تأمين محيط الحي متناثرا في الشارع.
وبحلول منتصف الليل، كان الرئيس السوري آنذاك في طريقه بالفعل مع حافظ إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية على الساحل الشمالي الغربي لسوريا ، وفقًا لقائد عسكري للمتمردين وضابط استخبارات سابق وأشخاص مطلعون على هروب عائلة الأسد.
ولم يأمر الأسد جيشه بالاستسلام إلا بعد أن كان خارج دمشق ، وأصدر لهم الأوامر بحرق المكاتب والوثائق.
وفقًا لعضو في المجلس العسكري للمتمردين وشخص مطلع على الأحداث. كانت روسيا، أحد الداعمين الأجانب الرئيسيين للأسد خلال الحرب الأهلية التي استمرت 13 عامًا، قد وعدت بالمرور الآمن إلى حميميم. ونفى قائد هيئة تحرير الشام أن تكون المجموعة قد تفاوضت على خروج الأسد.
ورغم مساعدة الأسد وابنه على الفرار من العاصمة، فقد جعلت موسكو الأب والابن ينتظران حتى الرابعة صباحاً من يوم الثامن من ديسمبر/كانون الأول، عندما مُنحا اللجوء لأسباب إنسانية. وسرعان ما سافرا إلى روسيا، مما أدى إلى نهاية مفاجئة لحكم الأسرة الوحشي الذي دام خمسة عقود.
وطلبت المصادر عدم الكشف عن هويتها للتحدث بحرية لمناقشة أمور حساسة. وباءت الجهود الرامية إلى الوصول إلى الأسد وأفراد عائلته في موسكو بالفشل. ولم يتوقع سوى قِلة قليلة من الناس الهجوم الذي شنته المعارضة ــ ولا سيما الرئيس، الذي تصور أنه انتصر في الحرب الأهلية التي اندلعت بسبب حملته الوحشية على المحتجين في عام 2011.
الأسد الذي كان في طريقه إلى إعادة التأهيل العالمي. وعلى خطى العالم العربي، بدأت بعض الدول الأوروبية أيضا في تقديم مبادرات.
لكن في النهاية، لم يستغرق الأمر من الثوار، بقيادة جماعة هيئة تحرير الشام الإسلامية، سوى عشرة أيام للسيطرة على العاصمة بعد شن هجومهم الخاطف.
الانهيار الداخلي: حينما ينقلب السحر على الساحر
منذ بداية الثورة السورية، اعتمد نظام الأسد على القبضة الأمنية، لكنه لم يتعلم من تجارب من سبقه أن قمع الشعوب ليس حلاً دائماً. وعلى الرغم من المظاهر المضللة للسيطرة، كانت هناك تصدعات خطيرة داخل النظام نفسه. تشير التقارير إلى تصاعد الانقسامات بين قيادات الجيش والمخابرات، حيث بدأ بعض كبار الضباط يراجعون ولاءهم بعد إدراك أن سقوط النظام بات مسألة وقت.
خطاب الوداع الذي لم يذاع
كشف كامل صقر، مدير المكتب الإعلامي في الرئاسة السورية سابقا عن “محاولة بشار الأسد إلقاء كلمة متلفزة، وأراد في البداية توجيه كلمة مدوية بعد سقوط حلب”.
وأضاف صقر: “تواصل الأسد مع مكتبه الإعلامي لكتابة نص من نحو 400 كلمة يتضمن اتهام تركيا بالاحتلال، وانتقاد الدول العربية على التخلّي عن سوريا، والتهديد بتقسيم الوطن إذا ما استمر التدخل الخارجي”.
وتابع: “جرى التحضير لذلك يوم الخميس، فتأجل للجمعة ثم للسبت، وفي نهاية المطاف ألغاه الأسد تماما مع اشتداد المعارك حول حمص وريف دمشق”.
صورة أرشيف
وأضاف صقر أنه رأى في نص الكلمة التي اطلع عليها لغة شديدة التوتر لا تناسب حجم الأزمة الحالية، وتغفل المطالب الواقعية كالانسحاب من الحكم أو عقد تسوية.
وكشف عن محاولته إبلاغ الأسد بأن الخطاب لا يغير شيئا، لكن لم يجرؤ أحد على اقتراح تنح صريح.
وأكد صقر أن أحد الموظفين المقربين أبلغه عند الساعة 02:15 بأن الرئيس قد غادر للتو.
وقال صقر: “غادر الأسد مع وزير الدفاع ورئيس الأركان والأمين العام للرئاسة ومرافقه الشخصي، ولا أعلم يقينا ما إذا كان شقيقه ماهر على علم مسبق بذلك أو لا”.
وتحدث صقر عن أهم 3 نقاط في الخطاب الأخير الذي أعده بشار الأسد بنفسه ليتوجّه به إلى السوريين وبقي حبرا على ورق.
وقال صقر: “جهزنا المكان كي يقوم منه بإلقاء الخطاب ولكن سقوط الأسد أصبح مرئيا منذ بداية يوم السبت 7 ديسمبر أي قبل ساعات على سقوط النظام”.
وأضاف: “تمّت التحضيرات اللوجستية لهذا الأمر وكانت هذه الفكرة بعد تحرير حمص من قوات النظام”.
واعتبر صقر أن الفقرة الأولى من الخطاب كانت تتحدث عن أن حصيلة ما يجري من تطورات في الميدان هي تقسيم للوطن.
وتضمّنت الفكرة الثانية هجوما على تركيا وأنها “بدأت تحتل حلب وأن الطرف التركي لم يكن صادقا”.
أما الفكرة الثالثة الرئيسية في الخطاب فكانت تتحدث عن الموقف العربي تجاه سوريا.
وتابع صقر: “نعلم أنه كان من المفترض عقد مؤتمر لوزراء الخارجية العرب ومن ثم جرى تخفيضه إلى مستوى المندوبين الدائمين ومن ثم لم ينعقد هذا الاجتماع وبالتالي لم يصدر بيان ولكن الأجواء العربية كانت تتمحور حول وحدة وأمن واستقلال سوريا وغيرها من المبادئ الاساسية سواء بوجود الأسد أو بغيابه”.
وأضاف صقر: “كانت خاتمة الخطاب موجهة إلى الشعب السوري بأنه في حال لم نقم بحماية الوطن فإن لا أحد سيحميه”.
وقال صقر إن مكان توجيه الخطاب كان نفس المكان الذي يظهر منه الأسد عادة في الخطابات المتلفزة وتحديدا في قصر المهاجرين وليس من القصر الرئاسي.
” موسكو “محطة الأسد الأخيرة
وفي موسكو، التقى الأسد بزوجته أسماء، التي قال أشخاص مطلعون على عملية الهروب إنها كانت هناك لعدة أسابيع لتلقي العلاج من نوبة ثانية من السرطان. كما كان في العاصمة الروسية والدتها ووالدها فواز الأخرس، اللذان فرضت عليهما وزارة الخزانة الأميركية عقوبات في وقت سابق من هذا الشهر. وانضم إليهم الآن أبناء الأسد، بما في ذلك ابنته زين التي كانت تدرس في جامعة السوربون في أبو ظبي، وفقًا لأشخاص مقربين من العائلة.
غادر عراقجي دمشق متوجهاً إلى أنقرة، حيث كان المسؤولون الأتراك يتوقعون تلقي رسالة من الأسد. ولكنهم لم يتلقوا شيئاً. وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الداعم الرئيسي للمتمردين السوريين منذ عام 2011، قد حاول مراراً وتكراراً استعادة العلاقات مع الأسد، وكان آخرها في يوليو/تموز. وكان الرئيس السوري السابق يرفض المحاولات في كل مرة.
لقد أصبح الأسد يائساً بشكل متزايد. فوفقاً لأشخاص مطلعين على المبادرة، قبل ثلاثة أو أربعة أيام من مغادرته دمشق، أشار الأسد إلى موسكو بأنه على استعداد للقاء المعارضة السياسية المنفية في جنيف لإجراء محادثات ــ وهو الأمر الذي رفضه منذ فترة طويلة. ولكن يبدو أن الروس لم ينقلوا هذه الرسالة.
منذ أن أطاحت هيئة تحرير الشام بنظام الأسد، تدفق الموالون والمنتفعون من النظام إلى خارج دمشق – الغالبية العظمى منهم يقودون سياراتهم عبر الحدود مع لبنان إلى بيروت، حيث يتحصن كثيرون منهم في منازلهم الثانية أو فنادقهم الفاخرة، في ظل إجراءات أمنية مشددة في الخارج.
ومن بين من تركهم الأسد خلفه أقارب مباشرون: ابن عمه من جهة أمه والرائد في الاستخبارات إياد مخلوف، وشقيقه التوأم إيهاب، ووالدتهما. وقال ثلاثة مصادر إن الثلاثة تعرضوا لهجوم أثناء خروجهم من سوريا إلى لبنان، مما أسفر عن مقتل إيهاب وإصابة إياد ووالدته.