إيران

الرؤية الإيرانية للأمن والاستقرار الإقليمي

في عالم السياسة والعلاقات الدولية لا مشكلة تستعصي على الحل إذا توافرت الإرادة والنوايا الإيجابية، ولكن إيران تنطلق في البحث عن حلول للمشاكل القائمة مع جيرانها من فكرة الهيمنة وضرورة قبول الجميع بوجهات نظرها حتى وإن قامت على مواصلة احتلال أراضي الغير، أو الحصول على حقوقهم من موارد الطاقة أو غيرها

دائماً ما ينتقد النظام الإيراني الوجود العسكري الأجنبي في منطقة الخليج العربي، ويتحدث عن أهمية التعاون الإقليمي كضمانة أساسية ووحيدة ـ من وجهة نظره ـ لتحقيق الاستقرار، وقد يكون هذا الحديث واقعياً ومنطقياً من الناحية النظرية، ولكنه ينهار عند أول مطابقة بين الأقوال والأفعال في السلوك الإيراني.

لم تكن المقدمة السابقة سوى تفنيد لمجمل مواقف النظام الإيراني حيال جيرانه العرب من دول مجلس التعاون خلال الفترة الماضية، وهي مواقف مكررة ولا يطرأ عليها أي تغيير إيجابي يناسب ما شهدته العلاقات عبر ضفتي الخليج العربي من تطورات في الفترة الماضية.

أول المواقف الإيرانية التي نقصدها هنا هو تعليق المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني على البيان الإماراتي – الكويتي المشترك بشأن الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة، حيث قال كنعاني “كما تم التأكيد عليه وفي الكثير من الأحيان، فإن الجزر الثلاث أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى هي جزء لا يتجزأ وأبدي من الأراضي الإيرانية، والإشارة إليها في هذا البيان أو البيانات المتكررة في اجتماعات أخرى، خاوية من أيّ قيم سياسية وقانونية وتعتبر تدخلا في شؤون إيران الداخلية”، مضيفاً “إن الجمهورية الإسلامية لا تعتبر أبدا سيادة أراضيها قابلة للتفاوض”.

بخلاف نبرة الاستعلاء والتعالي التي اعتاد عليها الخطاب السياسي الإيراني في ما يتعلق بقضية الجزر الإماراتية الثلاث، فإن طهران لا تنته أبداً إلى أن قضية الجزر الثلاث ستبقى عائقاً أبدياً في علاقاتها بدولة الإمارات ما لم يتم التوصل إلى حل وفقاً للصيغ الحضارية التي تطرحها الإمارات سواء من خلال التفاوض المباشر وفقاً لبرنامج زمني محدد، أو إحالة القضية إلى التحكيم الدولي، ولا أدرى ـ شخصياً ـ لماذا تصرّ طهران على رفض هاتين الصيغتين أو إحداهما، طالما أنها مقتنعة تماماً بقانونية وضع الجزر وسيادتها المزعومة عليها.

التشدد الإيراني لا يقتصر على قضية الجزر الإماراتية، بل يطال قضية أخرى تتعلق بجارين آخرين من دول مجلس التعاون وهما الكويت والمملكة العربية السعودية، وهي حقل “الدرة” النفطي، الذي علّق كنعاني على ما ورد في البيان الإماراتي – الكويتي بشأنه قائلاً “لقد قلنا مرات عديدة إن تقديم الادعاءات الانفرادية في مثل هذه البيانات لا يمنح أيّ حقوق للمدعي”، في تكرار للموقف نفسه الخاص بمحاولة ممارسة الهيمنة وفرض الرأي على الآخرين وإنكار حقوقهم بل رفض إعلانهم عن حقوقهم والتمسك بها من الأساس.

رفضت إيران أيضاً ما جاء في البيان الختامي للاجتماع الـ159 لوزراء خارجية دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي انعقد في الرياض، والذي أكد على أن “للكويت والسعودية كامل الحقوق لاستغلال الثروات الطبيعية في تلك المنطقة وفقا لأحكام القانون الدولي واستنادا إلى الاتفاقيات المبرمة والنافذة بينهما”.

يقول المتحدث باسم الخارجية الإيرانية في ما يتعلق بحقل “الدرة” إن “طهران ترى أنه يمكن التوصل إلى اتفاق حول قضية حقل ‘الدرة’ في جوّ من التعاون والتفاعل البناء، واحترام مصالح الأطراف المعنية” ويرى أن مواقف دول مجلس التعاون بشان حقوق الكويت والسعودية في الحقل “أحادية الجانب ولا أساس لها من الصحة وغير بناءة”، ويقول أيضاً إن وجهة نظر بلاده بشأن العلاقات مع جيرانها تقوم على “محاولة بناء أجواء إيجابية وبناءة والتأكيد على القضايا المشتركة والودية، ومن غير المقبول إثارة مثل هذه القضايا في تصريحات أحادية بأيّ حال من الأحوال”.

هذا الخطاب الإيراني المراوغ بشأن القضايا والأمور الخلافية بين طهران ودول مجلس التعاون لا يصب في مصلحة تنقية الأجواء بين دول الجوار الخليجي بشكل فعلي، ولا يتماشى مع الرؤية الإيرانية الساعية لإيجاد حلول أمنية خليجية ـ خليجية لتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي.

في عالم السياسة والعلاقات الدولية لا مشكلة تستعصي على الحل إذا توافرت الإرادة والنوايا الإيجابية، ولكن إيران تنطلق في البحث عن حلول للمشاكل القائمة مع جيرانها من فكرة الهيمنة وضرورة قبول الجميع بوجهات نظرها حتى وإن قامت على مواصلة احتلال أراضي الغير، أو الحصول على حقوقهم من موارد الطاقة أو غيرها، ولا ندرى كيف يكون التعاون والأجواء الإيجابية في ظل هذه الأحادية في التشبث بالرأي والانفراد به ومحاولة فرضه على الآخرين، فضلاً عن الدفع باتجاه التعاون الاقتصادي والتجاري مع تجميد الملفات الخلافية ومحاولة القفز عليها، وتلك مسألة قد تفيد لبناء الثقة وتهيئة الأجواء للتعاون ولكنها لا تمثل بديلاً عن الحلول النهائية اللازمة للملفات الخلافية على المدى البعيد.

الحقيقة أن بناء الثقة عبر ضفتي الخليج العربي يحتاج إلى ما هو أكثر من التصريحات والزيارات المتبادلة، ويتطلب جهداً إيرانياً حقيقياً لتنقية الأجواء وتسوية الخلافات القائمة من خلال الآليات المتعارف عليها في حل النزاعات بالطرق القانونية، إلى جانب فتح حوارات مباشرة مع جيرانها حول ملفات مثيرة للقلق مثل البرنامج النووي الإيراني، وكبح جماح الميليشيات الموالية لها بما يضمن أمن الملاحة البحرية والممرات المائية في المنطقة، علماً بأن ترديد مزاعم استقلال قرار الميليشيات وغير ذلك هو أمر مثير للسخرية ولا ينطلي على أيّ عاقل.

سالم الكتبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى