الديمقراطية في العراق… ما تقوله الكلمات يُكذّبه الواقع
العراق استورد القنابل بمبلغ يتراوح بين 20 و60 مليون دولار من أجل ضمان التأثير الفعال لمفعول تلك القنابل في إسالة دموع المتظاهرين
وكالة يونهاب الكورية الجنوبية كشفت الأسبوع الماضي عن تصدّر العراق قائمة مستوردي “القنابل المُسيلة للدموع” بأكثر من 1.2 مليون قنبلة خلال العام الماضي ونصف العام الحالي استوردتها من كوريا الجنوبية. وذكرت الوكالة في تقرير لها أن العراق كان في المرتبة الأولى والأكثر استيراداً للغاز المُسيل للدموع خلال الفترة من 2019 وحتى منتصف العام الحالي، حيث استورد العراق 732 ألف قنبلة غاز مُسيل للدموع من كوريا الجنوبية للمرة الأولى في العام الماضي، واشترى 478 ألف قنبلة إضافية في النصف الأول من هذا العام، متفوقاً على غيره من الدول المستوردة لهذا السلاح.
إقرأ أيضا : مَن يسرق المليار في العراق فقد نجا
وبجردة حساب بسيطة كما تشير إليها بعض المواقع الإلكترونية، فإن سعر القنبلة الواحدة يتراوح ما بين 10 و50 دولاراً للنوع الجيد في التنكيل، أي إن العراق استورد هذه القنابل بمبلغ يتراوح بين 20 و60 مليون دولار من أجل ضمان التأثير الفعال لمفعول تلك القنابل في إسالة دموع المتظاهرين الذين تعتقد السلطة أنهم ربما يكونون العدو رقم واحد لوجودها. هذا المبلغ كان يكفي لتعيين آلاف الشباب العاطلين عن العمل أو بناء العشرات من المدارس والمستشفيات.
أحد الأصدقاء سألني وهو يطّلع على أرقام هذا التقرير، ما الذي يحدث في العراق؟ وهل غادرنا زمن الدكتاتورية والاستبداد؟ ولماذا تُعاملنا السلطة بكل هذه القسوة المفرطة؟ ولماذا فشلت النُخب السياسية العراقية في بناء مؤسسات عصرية ونظام ديمقراطي حقيقي يضمن كرامة المواطن العراقي؟ وما هي طبيعة هذا الانتقام وتصفية الحساب لتصفير هذا الثأر المستمر؟
ما يدعو إلى المفارقة المؤلمة في المشهد السياسي أن الجماعات التي تمارس هيمنتها على السلطة قد أجمعت على احتقار الشعب العراقي والتنكيل به. وهنا لا أقصد النظام السياسي العراقي، فهذا الوصف يصعب وضعه في معجم الأدبيات الوطنية، فهو نظام مرتبك فوضوي.
لا تزال الذاكرة تحتفظ بصورة ذلك الشاب التشريني الذي قضى نحبه في ساحة التحرير في تظاهرات تشرين 2019 ممدداً على الرصيف وقد اخترقت قنبلة الغاز جمجمته وهشّمتها. صور ومشاهد بشعة تحتفظ بها ذاكرة الناشطين والمتظاهرين عن قسوة السلطة في التنكيل بهم من خلال تلك القنابل التي اعترفت حينها منظمات حقوق الإنسان وغيرها بخطورتها وتسببها بمقتل للمتظاهرين، وفي حالات وصلت إلى حد الاختناق الشديد وصعوبة التنفس من الدخان المنبعث منها.
الأخطر والأنكى في هذه الظاهرة غير المفهومة والطبيعية في التعامل والقسوة أن ينتشر ذلك السلاح القاتل بين عناصر اللادولة بسبب سيطرة أصحاب السلاح المنفلت على مفاصل الحياة العامة، وتكون المحصلة كارثة إنسانية بكل المقاييس.
استيراد العراق لكل هذه الكمية من القنابل يعني أن السلطة تُدرك أن عودة الاحتجاجات والتظاهرات باتت وشيكة أو قريبة، ربما هو السبب المعقول الذي يفسّر هذا الاستيراد الضخم من هذه القنابل.
غرابة هؤلاء أنهم يفكرون عكس اتجاه عقارب الساعة، فمن المفترض في بلد يطفو على بحور من النفط أن توزع خيراته بالتساوي على الشعب وألاّ تُحتكر الثروة والمال على نُخب السلطة فقط، وأن تبادر أي جهة توالت على حكم هذا الشعب إلى توفير أبسط حقوقه التي يطالب بها وهي فرص عمل، وتوفير الكهرباء والماء الصالح للشرب وبعض المقومات الحياتية التي لا تعدو كونها حقوقاً للمواطنين، بدل أن تخرج تلك الجموع تطالب بانتزاع حقوق مشروعة لها.
الديمقراطية التي فرضتها أميركا على النُخب الحاكمة ما هي إلا أضحوكة أو نكتة نتندر بها في مجالسنا، فمازالت الدكتاتورية والاستبداد لم يغادرا حياتنا وعقولنا، ومازالت السلطة تنظر إلى الشعب بعين الريبة والحذر بدليل أنها استوردت أكثر من مليون قنبلة غاز مسيل للدموع لقمع أيّ انتفاضة أو خروج إلى الشارع قد يفكر به الثائرون. لكن المؤكد أن الوضع المزري إذا ما استمر الوضع في التردي سيدفع تلك الجموع للخروج إلى الشارع مهما بلغ الثمن، ولن تردعها كل قنابل كوريا الجنوبية المُصنّعة.