الدولة الفلسطينية في الاستراتيجية الأميركية الجديدة
يجب النظر إلى مصالح واشنطن في الدعم اللامتناهي لدولة إسرائيل وغض الطرف عن جميع جرائمها بحق الفلسطينيين
بلغة بسيطة نختصرها، في جميع الحالات سواء خسرت روسيا الحرب في أوكرانيا أو انتصرت فيها، فلواشنطن حلف الناتو يتصدى للتمدد الروسي في أوروبا، إلا أنه في الشرق الأوسط، لو خسرت إسرائيل المواجهة في غزة، فلا عزاء للولايات المتحدة الأميركية، إذ ستوجه ضربة استراتيجية لنفوذها السياسي في المنطقة.
الإدماج هي مقولة تتناولها الأوساط السياسية المؤيدة أو المروجة للسياسة الأميركية، وهو تعبير عن مشروع استراتيجي وضعته واشنطن وتشاطرها إياه دول المنطقة وأبرزها السعودية والإمارات ومصر وإسرائيل والأردن والبحرين، ويعني إحلال الاستقرار السياسي والأمني في الشرق الأوسط، وخلق بيئة آمنة لحرية تحرك الرأسمال. وكان مشروع صفقة القرن بمحتواه الاقتصادي (50 مليار دولار ضخها في إقامة مشاريع اقتصادية في غزة) واتفاقات ابراهام بمعناها السياسي، وتوسيعها لتشمل دول عربية أخرى وعلى رأسها السعودية، هو إحدى المسارات السياسية لإتمام عملية الادماج.
وبموازاة مشروع الإدماج، يطفو على السطح مشروع المقاومة، وهو مشروع الجمهورية الإسلامية في إيران وحلفاؤها في المنطقة من الميليشيات الموجودة في الدول الفاشلة وهي اليمن والعراق ولبنان وسوريا، ومؤداه بذل مساعي حثيثة للحيلولة دون إتمام عملية الإدماج. ويعني الإدماج من الناحية العملية وضع المعوقات أمام التمدد القومي الإيراني بنفوذها السياسي والاقتصادي.
وضع هجوم حماس في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، عصا غليظة في عجلة مشروع الإدماج الذي خططت لها الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية كاستراتيجية لها في الشرق الأوسط من أجل الانسحاب، والتفرغ لاحتواء الصين في المحيط الهادئ، وكان ذلك قبل الغزو الروسي لأوكرانيا.
لقد عطل الغزو الروسي لأوكرانيا مشاريع الولايات المتحدة الأميركية على الصعيد الاستراتيجي، وفي الشرق الأوسط تحديداً، ودفعها لإعادة التموضع من جديد والعدول عن الانسحاب منها، خشية أن تملأ روسيا أو الصين الفراغ الذي تتركه، خصوصاً بعد أن تداعت حلقة حلفاء واشنطن في المنطقة وعلى رأسها السعودية، حيث لم ترضخ للضغوط الأميركية في إغراق أسواق النفط العالمية لتخفيض أسعاره لمعاقبة روسيا على غزو لأوكرانيا، أو التعويض عن نفطها جراء العقوبات الاقتصادية، وفضلاً على ذلك راحت تبيع النفط باليوان بدلاً من الدولار إلى الصين.
وقامت بترميم العلاقة مع إيران، وإعادة العلاقات مع سوريا وبناء علاقات استراتيجية مع الصين وروسيا. وبدأت الإمارات هي الأخرى تحذو حذوها، وكلا البلدين انضم إلى حلف بريكس، بعبارة أخرى شجع تمرد روسيا، وكسر عصا الانصياع للعصر الأميركي، بتدشين عالم جديد يهدد هيمنة القطب الأميركي على العالم.
وعليه تم إعادة تموضع القوات الأميركية، وهي عملية استباقية لاحتواء أي تغيير سياسي يمهد للنفوذ الصيني والروسي من بوابة إيران، وعلى الجانب الآخر كان من أجل توفير حماية كافية لإتمام مشروع الإدماج.
من هذه الزاوية، يجب النظر إلى مصالح واشنطن في الدعم اللامتناهي لدولة إسرائيل وغض الطرف عن جميع جرائمها بحق الفلسطينيين، وتحشيد قوات عسكرية كبيرة في المنطقة. وهنا يجدر الإشارة إلى أنَّ كل ما يقال عن شخصنة استمرار الحرب في غزة عبر حصرها برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وانه يبحث عن نصر ما بعد الضربة التي وجهت له ولدولة إسرائيل في السابع من أكتوبر، وانه يخاف محاكمته في اليوم الثالي لما بعد حرب غزة، وبأن بايدن أغلق التلفون بوجه نتنياهو بسبب عدم مبالاته حيال قتل المدنيين في غزة
والبيت الأبيض غاضب من الحكومة اليمينية الاسرائيلية.. الخ، كل ما تقدم أقل ما يمكن وصفه بالتهريج، ولا يعد أكثر من مسرحية هزلية للتضليل عن استراتيجية الإدارة الأميركية في الدعم اللامشروط لإسرائيل. وها هي ترفض مقترح الجزائر القاضي بإيقاف الحرب في غزة داخل مجلس الأمن. أي بشكل آخر نقولها، فبقدر حاجة إسرائيل للنصر، بنفس القدر تحتاج الإدارة الأميركية إلى النصر، وتؤكده تصريحات جميع المسؤولين في الإدارة الأميركية عن حتمية هزيمة حماس، مع الأخذ بنظر الاعتبار ذرف دموع التماسيح على إبادة المدنيين لطمس ماهية السياسة الأميركية، وإبداء مواقف لا تتجاوز التصريحات الإعلامية والدعائية.
ان السابع من تشرين الأول (أكتوبر) فرض على الولايات المتحدة الأميركية صياغة استراتيجية جديدة في الشرق الأوسط، وعجل قتل ثلاثة جنود أميركيين في برج 22 في الأردن في الثامن والعشرين من شهر كانون الثاني (يناير) من تنفيذها بشكل عملي، وعبر عن ذلك كاتب العمود في صحيفة “نيويورك تايمز” توماس فريدمان، وهو أحد مهندسي السياسة الأميركية والمقرب جداً من إدارة بايدن ودوائر الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية، حيث قال في مقاله المعنون “عقيدة بايدن في الشرق الأوسط بدأت تتبلور” إنَّ السياسة الأميركية في الشرق الأوسط ستتمحور حول تحجيم حلفاء إيران من الميليشيات عبر قتل قادتها وضربها في المنطقة.
وقد بدأت بالفعل دون توقف، والاعتراف بدولة فلسطينية (بغض النظر عن جديتها)، وإتمام عملية الإدماج كما سموها عبر تأسيس حلف من الموقعين على اتفاقات ابراهام والسلطة الفلسطينية والسعودية.
وعلى الجانب الآخر، ساهمت عقيدة بايدن أو السياسة الأميركية الجديدة بفرض التراجع خطوة على إيران، وبدأت تتبنى نبرة التهدئة بعد ان كانت تلوح بالتصعيد بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وبأن الهجوم البري على غزة سيشعل حرباً إقليمية، في حين ومن لبنان أيضاً قبل أيام صرح وزير خارجية إيران بأن الحرب ليست هي الحل، وأن إيران لا تريد الحرب وحرب غزة بحاجة إلى حل سياسي. وأبعد من ذلك، غضت إيران الطرف عن عمليات الاغتيال التي قامت بها إسرائيل وأميركا لقادة حماس وحزب الله والمليشيات التابعة لها في سوريا والعراق، وضرب مقراتهم وتوسيع رقعة استهداف الحوثيين في اليمن. وقد لاقت تصريحات اللهيان ارتياحاً في عدد من الأوساط الإسرائيلية.
بغض النظر عن أي استراتيجية أميركية أو إيرانية في المنطقة، فالقضية الفلسطينية أثبتت أنها برميل بارود، لا توقيت لانفجاره في حال عدم حلها. وقد بين السابع من تشرين الأول (أكتوبر) أن أي استقرار في المنطقة بالمعنى المطلق، لا يمكن الحديث عنه دون تأسيس دولة فلسطينية مستقلة، ومن الحماقة انتظار هذا الحل يأتي من الداخل الإسرائيلي، فالثقافة السائدة والعقلية الموجودة كما يعلمنا كارل ماركس هو انعكاس للطبقة الحاكمة، والطبقة الحاكمة في إسرائيل هي نازية وعنصرية بامتياز.
إنَّ مفتاح الحل بيد الاحتجاجات العظيمة التي تهز العالم من أجل وقف الحرب في غزة، بيد العالم المتمدن والإنساني، وبيد الضغط على الولايات المتحدة الأميركية والغرب بالكف عن دعم إسرائيل وفضح سياساتها التي تخفي ما وراء هذا الدعم اللامشروط، لقد كانت محكمة العدل الدولية نموذجاً عن وضع إسرائيل ولأول مرة بالتاريخ في قفص الإدانة والمحاسبة، وقد يكون أيضاً اجتماع الرياض الأخير الذي ضم مصر وقطر والأردن والإمارات والسلطة الفلسطينية إلى جانب الدولة المنظمة للاجتماع وهي السعودية، ورقة ضغط جديدة وجدية على إسرائيل للكف عن ممارساتها الوحشية، وخطوة نحو تأسيس دولة فلسطينية مستقلة.