بعد أربعة عقود من إطلاق برنامج الأسلحة النووية، ضعفت قوة الردع التقليدية للجمهورية الإسلامية نتيجة سياسة العقوبات القصوى التي فرضتها الولايات المتحدة على النظام الإيراني، والضربات الإسرائيلية لوكلائه، ودفاعاته الجوية، وقدرته على إنتاج الصواريخ، والضغط المتزايد من المجتمع الدولي على البرنامج النووي الإيراني، وهو ما فرض على طهران عزلة إقليمية ودولية، كل هذا يدفع إيران الآن إلى الاختيار بين أن تستمر في التحوط وتعمل على تكديس كميات متزايدة من اليورانيوم المخصب، أو أن تحاول إنتاج القنبلة النووية؛ ومن ثم تتحول إلى دولة مسلحة نوويًّا.
ومع أن إيران أكدت مرارًا وتكرارًا أن برنامجها النووي مدني بطبيعته، وأنها لا تنوي إنتاج أسلحة نووية، فإن المتغيرات الإقليمية والدولية قد تجعل الجمهورية الإسلامية على عتبة السلاح النووي، ويتطلب هذا القرار تقييم أولويات النظام الإيراني بشأن ما إذا كان سيختار قوة ردع ضئيلة، أو ترسانة تليق بنظام ذي طموحات عظيمة، أو رسم مسار وسط يجمع بين مكاسب الخيارين.
خطة بناء السلاح النووي الإيراني
وفقًا لأحدث تقييم نشرته أجهزة الاستخبارات الأمريكية، لم تتخذ طهران بعد قرارًا إستراتيجيًّا بالتحرك نحو الأسلحة النووية، ولكن حتى لو لم تبدِ قيادة إيران رغبة في الحصول على سلاح نووي، فإن العمل التكنولوجي يتجاوز خطوط البرنامج المدني، حيث وفرت الجهود المكثفة التي بذلتها إيران في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في إطار خطة آماد لإنتاج خمسة أسلحة نووية، نقطة انطلاق للسلاح النووي المستقبلي لطهران، الذي تسعى منظمة البحث والتطوير العسكرية الإيرانية إلى الوصول إليه عبر مسارات متوازية.
ومنذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي المتعدد الأطراف المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة في عام 2018، تقدم البرنامج النووي الإيراني دون عوائق، وعلى الرغم من حرص طهران على عدم تجاوز نسبة التخصيب العسكري 90 %، فإن البرنامج تقدم دون انقطاع، متحديًا العقوبات المفروضة عليه بعد الانسحاب الأمريكي، وعقب انحراف طهران عن الحد الذي حددته خطة العمل الشاملة المشتركة لتخصيب اليورانيوم، طورت أجهزة طرد مركزي متقدمة وتخصيب اليورانيوم بنسبة 60%. بالإضافة إلى ذلك، سعت إيران إلى تطوير منشآتها للتخصيب في موقعي نطنز وفوردو، وتستعد لتشغيل منشأة أخرى للتخصيب بالقرب من نطنز.
مؤشرات التصعيد
مضت الدول الغربية قدمًا في خططها لإدانة إيران بسبب برنامجها النووي في اجتماع مجلس إدارة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حيث تقدمت بريطانيا وفرنسا وألمانيا بمشروع قرار للضغط على طهران للعودة إلى الالتزام بالقواعد النووية الدولية. وبحسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن إيران زادت مخزونها من اليورانيوم المخصب في الأشهر الأخيرة، حيث وصل إلى أكثر من 32 ضعف الحد الأقصى المحدد في الاتفاق النووي لعام 2015 الذي انسحبت منه الولايات المتحدة في عام 2018 تحت قيادة دونالد ترمب؛ ما يجعل طهران الآن هي الدولة الوحيدة غير النووية التي تخصب اليورانيوم إلى 60%، وهو ما يقترب من عتبة 90% المطلوبة لصنع الأسلحة النووية.
ولم تتوقف طهران عند هذا الحد؛ بل صعدت خطواتها النووية من خلال ضخ الغاز في آلاف من أجهزة الطرد المركزي المتقدمة، وهي عملية لتخصيب اليورانيوم الذي يمكن استخدامه في نهاية المطاف لتطوير سلاح نووي، في تحدٍّ مباشر لقرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولعل تحذير وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي من أن التهديدات الغربية بإعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة قد تدفع مناقشات السياسة النووية في إيران نحو تطوير الأسلحة النووية، يعد جزءًا من إستراتيجية أوسع نطاقًا للنظام، تتمثل في الابتزاز النووي؛ بهدف ترهيب الغرب لتجنب سياسة حازمة تجاه طهران قبيل الاجتماع المزمع عقده بين إيران وفرنسا وبريطانيا وألمانيا في جنيف.
مصير السلاح النووي الإيراني
يشهد البرنامج النووي الإيراني مستقبلًا غامضًا في السنوات القليلة المقبلة يتعلق بعدة متغيرات على الساحة المحلية والإقليمية والدولية، خاصة فيما يرتبط بمصير الاتفاق النووي والتوترات الداخلية في إيران، في حين يتجسد العامل الأكثر تأثيرًا في الحرب الإسرائيلية على إيران وقوى محور المقاومة، وتحديدًا حزب الله والحوثيين والفصائل العراقية، وهو ما سيلقي بظلاله ليس فقط على الملف النووي؛ ولكن أيضًا على الإستراتيجية الأمنية الشاملة لطهران، وعلاقات الجمهورية الإسلامية بالمجتمع الدولي والمنطقة؛ ما يفرض على إيران أن تتخذ قرارًا تاريخيًّا فيما يخص مستقبل ترسانتها النووية.
وفي ظل حالة عدم اليقين التي تشهدها المنطقة، يبدو أن المجتمع الدولي في حالة جمود عميق في مواجهة هذه التطورات، حيث تسلط الزيارة الأخيرة التي قام بها المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل جروسي إلى طهران الضوء على هذا الجمود، لا سيما أن استعداد طهران للتعاون مع الوكالة يأتي فقط لمنع أي قرار قاسٍ ضدها من جانب مجلس محافظي المنظمة، دون نية حقيقية للعمل مع الوكالة الدولية والانصياع لاشتراطاتها.
وفي هذا السياق، يعكس تجدد الحديث عن آلية “سناب باك” التي تتيح إعادة فرض كل العقوبات الأممية على إيران، عودة الجدل فيما يتعلق بمدى التزام الأطراف بصياغة إستراتيجية دقيقة بشأن تفعيل الآلية؛ ما يجعل أي قرار سوف يخلف عواقب بعيدة المدى على سلوك إيران فيما يتصل ببرنامجها النووي؛ ومن ثم سيكون الثامن عشر من أكتوبر (تشرين الأول) 2025 هو الفرصة الأخيرة للقوى العالمية لبدء آلية سناب باك، وإعادة جميع العقوبات التي رُفعت في اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة، ولمواجهة هذا تهدد إيران بأن تفعيل تلك الآلية سوف يؤدي حتمًا إلى انسحاب طهران من معاهدة حظر الانتشار النووي؛ ما يجعل هذا القرار حاسمًا لمستقبل سباق التسلح النووي العالمي.
ولكن حتى إذا تخلت القوى العالمية عن خيار تفعيل آلية سناب باك، فإن هذا سوف يخلف عواقب وخيمة على إيران، ويرسل رسالة مفادها أن لديها فرصة للمضي قدمًا في برنامجها دون أي حدود حقيقية، وهذا يثير مسألة العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، أو صياغة اتفاق نووي جديد، ويبدو أن القيادة الإيرانية الحالية، وخاصة بعد انتخاب الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان، تدرك أن الطريق إلى الإغاثة الاقتصادية في إيران لا يكمن إلا في التوصل إلى اتفاق مع الغرب يحد من طموح برنامجها النووي. ومن ناحية أخرى، فإن الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة التي سيقودها قريبًا الرئيس المنتخب دونالد ترمب، سوف تشجع هذا التوجه.
الخاتمة
تقف إيران الآن على مفترق طرق خطير؛ فإما أن تعود إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، وهو من شأنه أن يؤدي إلى التراجع عن البرنامج النووي في مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية بشكل كبير، وإما أن تفعل الدول الغربية آلية سناب باك خلال المحادثات المرتقبة بين إيران وألمانيا وبريطانيا وفرنسا؛ وهو ما قد يؤدي إلى تحركات غير مسبوقة من جانب إيران، وصدام حاد بينها وبين والولايات المتحدة، لا سيما أن احتمالات تجاوز الخطوط الحمراء في البرنامج النووي تتزايد مع كل يوم يمر دون التوصل إلى اتفاق.
يرتبط هذا الواقع أيضًا بالصراع الإسرائيلي الإيراني، وتحديدًا خوف إسرائيل من مهاجمة إيران؛ ففي الماضي، كانت المخاوف تتلخص في أن إسرائيل ستكون حريصة على عدم مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية دون دعم الولايات المتحدة؛ خوفًا من اندلاع حرب إقليمية قد يُلحق فيها حزب الله أضرارًا جسيمة بإسرائيل، ولكن التطورات التي حدثت منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وخاصة الخسائر العسكرية التي مُني بها حزب الله، والتداعيات الجسيمة التي لحقت بالقدرات النووية الإيرانية نتيجة للهجوم الإسرائيلي الأخير الذي دمر منشأة سرية لأبحاث الأسلحة النووية في بارشين، قد يشجع تل أبيب على توجيه ضربة قاصمة للبرنامج النووي الإيراني بدعم من الرئيس الجديد للولايات المتحدة.