لم تكد تمضي ساعات على سقوط نظام بشار الأسد إلا وانطلق سجال في مصر يخاف على مصير سوريا من الإسلاميين المتشددين، ويسقط موقفه من حكم «الإخوان» في مصر على ما جرى في سوريا، وشككوا في مصداقية الخطاب الجديد الذي يتبناه قائد إدارة العمليات وزعيم «هيئة تحرير الشام» أحمد الشرع، معتبرين أن سوريا حاربت الطاعون بالكوليرا.
والحقيقة أن هناك مجموعة من الفروق بين السياقين المصري والسوري ربما تساعدنا على فهم هذا التباين في آراء البعض حول مستقبل سوريا من دون أن يمنع ذلك من وجود تيار ضخم في مصر والعالم العربي عبّر عن سعادته للتخلص من «ديكتاتورية استثنائية» في دمشق، وتضامنه الكامل مع الشعب السوري من أجل تحقيق طموحاته في دولة قانون عادلة بعد أن عانى عقوداً من المحن والمظالم.
والحقيقة أن الفارق الأساسي بين مصر وسوريا يعود إلى لحظة اندلاع ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 في مصر، ثم اندلاع الثورة السورية في مارس (آذار) من العام نفسه، ويكمن في أن قطاعاً واسعاً من المجتمع المصري انقسم حول جماعة «الإخوان» ورفضها بشدة، فقد حصلوا على أغلبية نسبية بلغت نحو 43 في المائة من مقاعد برلمان 2011، ثم تراجعت هذه النسبة بعد وصول الجماعة لسدة الرئاسة حتى أصبح غالبية الشعب المصري معارضاً لها ومنقسماً حول أي مشروع للإسلام السياسي.
اقرأ أيضا.. على هامش قمة الدول الثماني النامية.. كيف تبني مصر مستقبلها؟!
إذا أضفنا إلى ما سبق أن حكم الرئيس مبارك يمكن اعتباره «ليبرالياً» إذا قارناه بحكم بشار الأسد، وهذا ما جعل هناك تياراً يُعتد به من الشعب المصري تعاطف مع مبارك، وأيد أن يكون رحيله عبر آلية دستورية، أو كما قال الرجل بانتهاء مدة ولايته في سبتمبر (أيلول) 2011، ولو تم لربما شهدت مصر مسارات مختلفة عما شهدته بعدها.
وقد اتضح الانقسام المجتمعي في التعامل مع النظام القديم، وأيضاً حول «الإخوان المسلمين» حين شاهد الناس أن منافس الرئيس الراحل محمد مرسي هو الفريق أحمد شفيق الذي كان وزيراً للطيران في عهد مبارك، بما يعني أن النظام الذي ثار عليه قطاع من الشعب ظلت له حاضنة شعبية بلغت ما يقرب من نصف عدد أصوات الناخبين الذين صوتوا لشفيق، ولو كان البلد في ظروف طبيعية لكان من المستحيل أن يخسر أمام مرشح «الإخوان المسلمين».
الأصوات التي حصل عليها الرجل مع وجود قيادات عسكرية ومدنية مقبولة شعبياً داخل النظام الأسبق مثل الراحل عمر سليمان وعمرو موسى وغيرهم دل على أن نظام مبارك كان يمكن إصلاحه من داخله، وهي صيغة من الصعب تصوُّرها مع النظام الساقط في سوريا – أن يتخيل الناس أن يكون أحد كبار قادته العسكريين منافساً مقبولاً لأي مرشح رئاسي في سوريا المستقبل.
نظام بشار اعتقل نحو 400 ألف شخص، وقتل نحو 53 ألفاً آخرين، ولم يمتلك أي حاضنة شعبية تُذْكر، وارتكب قادة جيشه وأجهزته الأمنية في مجملهم جرائم مخزية تمثل وصمة عار في جبين الإنسانية كلها.
ومن هنا لم يكن غريباً أن نجد أشد التيارات علمانية وأكثرها ليبرالية وتغريباً في سوريا تقبَّلت وقدَّرت قيام الفصائل الإسلامية بتخليص البلاد من هذا النظام، وأن «الإجماع الوطني» على البديل الحالي تجاوز على الأقل في تلك اللحظة الانقسام المدني الإسلامي الذي عرفته مصر وتونس وأقطار عربية أخرى.
صحيح أن الإيمان بدولة القانون المدنية أمر يتبناه غالبية السوريين، وأن رفع قادة سوريا الجدد شعار الدولة الدستورية لم يُثر نفس حالات الريبة والتوجس حين رفعه الإسلاميون في مصر، ورآه قطاع يُعتد به من النخب السياسية أنها وعود «مخدرة» قبل الوصول للسلطة، وتتغير تماماً بعد التمكين من السلطة.
الثقة التي رفعتها لافتات عشرات الآلاف من المحتفلين بإسقاط النظام في سوريا، وضمت كل الاتجاهات ومواطنين عاديين أمام المسجد الأموي وبينهم فتيات بالقول: «نثق فيمن حرر المسجونات من صيدنايا من دون أن نبحث في هويتهم السياسية أو جنسهم»، وهو توجه غير وارد أن يرفعه خصوم تيار الإسلام السياسي في أي تجربة تغيير عربية أخرى.
سواء كان الخطاب المنفتح الذي رفعه قائد «هيئة تحرير الشام» «تقية» أم حقيقياً فإن الإجماع السوري على كراهية النظام القديم ودعم من أسقطه واقع خرجت منه حكومة مؤقتة ومسار انتقالي محفوف بالمخاطر، والمطلوب من الدول العربية أن تتفاعل مع هذا المسار، لأن العلاقات بين الدول تقاس على أساس المصالح الاستراتيجية وضمان عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وليس على أساس الاتفاق والاختلاف مع توجهات الحكم الآيديولوجية.