وصف عبده الحوثي بـ “اليمني المحارب” من قبل نائب رئيس منظمة “مواطنة” يشكل سقوطاً أخلاقياً لا يقل ضرراً عن جرائم الجماعة الحوثية نفسها، إذ يظهر التحيز والمحاباة لزعيم جماعة قتلت آلاف الأبرياء من اليمنيين وخربت البلاد ودمرت النسيج المجتمعي.
فالشعب اليمني الذي يعاني ويلات الحرب والظلم بحاجة إلى أصوات حقيقية تدافع عنه، وليس إلى عبارات تجميلية تضاف إلى قواميس التضليل.
لكن يبدو أن الساحة اليمنية باتت تشهد اليوم تطوراً غير مسبوق، حيث يقف بعض العاملين في المجال الحقوقي، ممن يُفترض بهم الدفاع عن حقوق الإنسان والحياد، في تناقض واضح مع مبادئهم المفترضة.
ففي 26 أكتوبر 2024، نشر نائب رئيس منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، عبدالرشيد الفقيه، كلاما أثار جدلاً واسعاً حول وصفه لزعيم جماعة الحوثيين، عبد الملك بدر الدين الحوثي، بـ”اليمني المحارب”. هذا الوصف، الذي قد يعتبره البعض إطراءً، يثير في واقع الأمر عدة تساؤلات ومآخذ حول الدور الذي تلعبه المنظمات الحقوقية في ظل الصراعات والنزاعات المحلية، ويفتح باب النقاش حول مفهوم الحيادية في حقوق الإنسان.
تأسست منظمة “مواطنة لحقوق الإنسان” باعتبارها منظمة يمنية مستقلة، معنية برصد وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن من قبل جميع الأطراف. ويفترض أن تحافظ هذه المنظمة، وغيرها من المنظمات المشابهة، على الحياد المطلق، خصوصا عند التعامل مع النزاعات التي تتسم بالتعقيد والانقسامات الحادة. غير أن وصف زعيم الحوثيين بـ”اليمني المحارب” يعد خروجا عن هذا الحياد، وإشارة إلى نوع من التحيز قد يثير تساؤلات حول دوافع هذا الموقف ومدى التزام “مواطنة” بالمبادئ التي يُفترض أن تلتزم بها.
بلا شك فإن وصف عبد الملك الحوثي بـ “اليمني المحارب” ينطوي على مغالطات تاريخية وجغرافية. فمن المعروف أن عبد الملك الحوثي، زعيم جماعة الحوثي، يعتبر نفسه صاحب حق إلهي في السلطة، مستندا إلى مفهوم “الولاية” ومتذرعا بنسبه الهاشمي، مما يعني أنه يربط أصوله بقبيلة قريش التي لجأت إلى اليمن بعد البطش الذي عاناه الهاشميون من أبناء عمومتهم من العباسيين والامويين وفيما تعامل معهم شعبنا اليمني بكل احترام إلا أنهم اعتمدوا سياسة البطش بكل يمني يرفض مسألة الولاية وحكمهم بالقوة لمبررات دينية ما أنزل الله بها من سلطان. وياللمفارقة.. وبهذا، فهو لا يرى نفسه يمنيا بالمعنى الوطني الشامل، حيث يرفض الاندماج في الهوية اليمنية.بل يدعي أحقيته بالقيادة عبر أيديولوجية دينية تضعه فوق بقية اليمنيين، وتدفعه إلى محاولة فرض هذا الحق بقوة السلاح.
من جانب آخر، يشير وصفه بـ “المحارب” إلى نوع من التقدير أو الإعجاب الضمني، وهو أمر يثير الاستغراب، لا سيما عندما يطلق على زعيم جماعة ارتكبت فظائع بحق الشعب اليمني، قتلت وجرحت مئات الآلاف، واعتقلت عشرات الآلاف وفجرت المئات من منازل معارضين لها.وأهانت كرامة اليمنيين من جميع الطوائف والفئات. فمن غير الملائم إطلاق لقب “محارب” على شخص يقود مليشيا مسلحة تحتكم إلى الفكر السلالي وتقوم على طمس الهوية اليمنية الوطنية باسم “الولاية”.
اقرأ أيضا| إلى «اليمن» دُر
في الواقع، يترأس عبد الم. لك الحوثي جماعة ذات طابعٍ سلالي وديني متشدد، تعمل على تأسيس دولة دينية إمامية، تتعارض في أساسها مع طموحات اليمنيين في بناء دولة مدنية حديثة. دولة غايتها الانقلاب على ثورة سبتمبر المجيدة ١٩٦٢ ومبادئ الجمهورية.. فيما تعود جذور الجماعة إلى أيديولوجيات استعلائية عنصرية بلهاء ، تحاول أن تستند إلى شرعية دينية مزعومة للنسب القرشي، حيث تعتبر نفسها الأحق بالسلطة في اليمن. وقد أثارت هذه الأيديولوجية الكثير من الصراعات داخل المجتمع اليمني، منذ قرابة عشرة قرون. وأدت إلى قرابة عشر سنوات فظيعة من الاقتتال والفوضى التي لم تبقِ على شيء، لا من البنية التحتية ولا من الاستقرار الاجتماعي.
إن التصريح الذي أدلى به عبدالرشيد الفقيه لا يمثل مجرد تعبير عن رأي شخصي، بل يحمل أبعاداً سياسية وإنسانية أوسع. فهو يطرح سؤالاً جوهرياً حول مفهوم الحياد في منظمات حقوق الإنسان. فالحياد لا يعني التغاضي عن الجرائم والانتهاكات، ولا يعني المساواة بين الجلاد والضحية. بل يجب أن يكون حياداً مبنياً على مبادئ حقوق الإنسان العالمية التي ترفض كافة أشكال الظلم والطغيان. وبالنظر إلى ممارسات جماعة الحوثي، فإن أي محاولة لتلطيف صورتهم أو إطلاق ألقاب مثل “المحارب” على قائدها، يعد خيانه للمبادئ الإنسانية التي يفترض أن تقوم عليها منظمة مواطنة وغيرها من المنظمات العاملة في هذا المجال.
وفي ظل استمرار الأزمات الإنسانية التي يعيشها اليمنيون، يصبح من الضروري أن يكون هناك صوت صارخ في وجه الظلم. فالضمير الإنساني يملي على المنظمات الحقوقية ألا تتحيز لأي طرف على حساب القيم التي تأسست من أجلها. ومع ذلك، فإن وصف الفقيه لعبده الحوتي بـ”المحارب” يعكس صورة مشوشة للضمير الإنساني الذي يفترض أن تمثله هذه المنظمات. فالواقع أن الضمير الحقيقي لا يختار الألقاب التي توحي بالتمجيد والتعاطف مع من يتسبب في معاناة الشعب، ولا يمنح الشجاعة لمن ينهب حياة الناس ويحولها إلى جحيم.
وبدلا من تسميته بـ “المحارب”، وهو وصف يضفي نوعا من النبل أو الشجاعة، يجب أن نوصف الحوتي بما يعكس حقيقته كزعيم لجماعة عنيفة ومليشيا مسلحة تعمل على إذكاء النزاعات وتغذية الصراعات على حساب استقرار البلاد ومستقبلها. على أن الوصف الأنسب له هو “زعيم ميليشيا” أو “قائد جماعة عنيفة”، إذ أن ما يقوم به ليس حربا نبيلة، بل اعتداء على قيم المجتمع اليمني وحقوق أفراده.
عبده الحوتي ليس محاربا يقاتل من أجل قضية مواطنة متساوية، بل هو زعيم لجماعة دموية تحمل أجندة طائفية ضيقة قائمة على السلالة، وتحتكم إلى السلاح لفرض سيطرتها، غير مبالية بآلاف الأرواح التي أزهقتها ولا بمعاناة شعب بكامله.
إن الدور الحقيقي لمنظمات حقوق الإنسان هو حماية المدنيين ورصد الانتهاكات، دونما انحياز أو مواربة. ويقع على هذه المنظمات مسؤولية عظيمة في فضح الجرائم، ومحاسبة المتورطين فيها أمام المجتمع الدولي، بدلا من التغاضي عن واقع مأساوي أو محاولة التجميل على حساب الحقيقة. وبالمختصر لا يجب على المنظمات الحقوقية أن تكون مدفوعة بأي انتماء سياسي أو فكري أو طائفي، بل يجب أن تبقى صوتا للعدالة ولعدم التحيز وللضمير الوطني.