منذ صعود الحوثيين بانقلابهم على الدولة اليمنية وإسقاطهم الجمهورية في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، والمراقبون في حيرة كبيرة حول طبيعية (وبنية) السلطة السياسية التي تديرها جماعة الحوثي في المناطق التي تسيطر عليها، وفي القلب منها العاصمة صنعاء، فثمّة من يرى أن هؤلاء، وهم بطبيعة الحال سياسياً نقيض كلي للفكرة الجمهورية التي أنهت حكم الإمامة الزيدية في اليمن من خلال ثورة 26 سبتمبر (1962).
في المقابل، من يراقب طبيعة سلطة الحوثيين السياسية التي يديرون بها مناطقهم، لا تكاد عينُه تخطئ حالة التماهي والتطابق بين هذه السلطة وسلطة ولاية الفقيه في إيران، باعتبار زعيم الجماعة، عبد الملك الحوثي، ممثلاً حرفياً لفكرة ولي الفقيه مع فارق جوهري واضح في أن الولي الفقيه الإيراني يجرى انتخابه مباشرة من مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني، فيما عبد الملك الحوثي زعيم ومرشد وعلم مُعين من السماء مباشرة، بحسب أدبيات الجماعة، وفي اللاشعور الجمعي بطريقة تقديمهم عبد الملك الحوثي لأتباعهم وجمهورهم.
ما كان مجرّد تكهنات وتحليل، عن طبيعة النظام السياسي للجماعة، كشفه، أخيراً، عضو الجماعة عبد الملك العجري في حوار له مع مجلة أتلانتيك الأميركية، أجراه الصحافي الأميركي روبرت وورث، في مسقط، حيث يكتب الأخير، أنه عندما سأل محاوره عن إمكانية تقاسم الجماعة السلطة مع الجماعات السياسية اليمنية الأخرى، أصابه الذهول من جرأة الإجابة التي سمعها، فقد أكد العجري له أن عبد الملك الحوثي سيظلّ بمثابة السلطة السياسية العليا في اليمن في ظل أي حكومةٍ مقبلة، لأن سلطته تأتي مباشرة من الشعب بحسب العجري، وبالتالي هي غير قابلة للنقاش.
مثل هذا التصريح، الذي ربما يُعد الأول من نوعه من قيادي حوثي بارز، يُعد بمثابة تدشين لمرحلة جديدة من الوضوح لدى الجماعة التي ظلت تراوغ كثيراً في خطابها السياسي الخارجي، في ما يتعلق بطبيعة نظامها السياسي الذي تعمل على تحقيقه، وهذا في حد ذاته مؤشّر، هو الآخر، على أن الجماعة تعتقد أنها قد تجاوزت مرحلة الخوف في ما يتعلق بسير المعركة العسكرية معها، وخصوصاً في ظل الهدنة الطويلة التي أوقفت الحرب، وفي أوج مرحلة ضعف الجماعة، ما منحها زخماً أكبر في استعادة أنفاسها وترتيب صفوفها بالطريقة التي تُقدم بها نفسها اليوم في ظل معركة غزّة وانخراط الحوثي “المُحاصر” لحصار حركة الملاحة الدولية في جنوب البحر الأحمر. لكن العجري، بحسب الصحافي وورث، أضاف أن الحوثي سيكون “أقوى وأكبر” من نظيره اللبناني (أمين عام حزب الله حسن نصر الله)، لأن الحوثيين سيكونون “اللاعب الرئيسي وصاحب المصلحة الرئيسي” في اليمن. بمعنى آخر، وبحسب وورث أيضاً، سيكون الحوثي بمثابة نظير للمرشد الأعلى في إيران، الذي له الكلمة الأخيرة في جميع شؤون الدولة الإيرانية.
وهذا التفسير الأخير من وورث مجرّد تحليل قد لا ينسجم مع طبيعة العلاقة التي باتت تربط الحوثيين بإيران وهيمنة الأخيرة على قرار كل ما تسمّى فصائل محور المقاومة، التي تضم حزب الله (اللبناني) وكل فصائل الحشد الشعبي في العراق وفصائل المقاومة الفلسطينية مع جماعة الحوثي، وأن القرار الإيراني مهم، وإن ترك مجالاً واسعاً لهذه الفصائل للتحرّك والمناورة داخل مجال النفوذ والمصالح الإيرانية، وهذا مدرك في تصرّفات هذه الجماعات، وخصوصاً في ضوء أحداث غزّة والعدوان الإسرائيلي الهمجي عليها، مع استثناء خصوصية “حماس” في هذا الصدد.
بمعنى أن جماعة الحوثي واقعة بين مأزقين كبيرين، هما من يدفع بالجماعة للحديث عن نموذج حكمها الذي تسعى إلى تطبيقه، فالدافع الأول هروبهم من إشكاليات الصراع الزيدي – الزيدي، حول لمن الأحقية في تمثل الزيدية مرجعياً وسياسياً، وهذه إشكالية تاريخية جعلت الزيدية تعيش حروباً طاحنة، ولم يستقر لها حال، طوال تاريخها الصراعي المرير.
أي أن جماعة الحوثي، رغم تأكيدها الدائم زيديتها، لكنها أيضاً أدخلت في صلب الزيدية تعديلاتٍ كثيرة للقفز فوق مأزقها الراهن، وأكبر مأزق يواجهها فكرة الجمهورية، هذه الفكرة النقيضة تماماً لفكرة الإمامة الزيدية التي لا أعتقد أن اليمنيين يمكن أن يقبلوا بتجاوزها، عدا عن أن الحوثيين أنفسهم يدركون أن مأزق الزيدية قائم أيضاً في أدبياتهم نفسها التي تبيح وجود أكثر من إمام في وقت واحد، ما يفتح المجال للمنافسة بين أدعياء النسب الهاشمي ضمن الزيدية نفسها، وأيضاً مأزق البطون الهاشمية المؤهلة لذلك أكثر من غيرها، بحسب شروطها الستة عشر.
المأزق الثاني الذي يمثل تحدّياً للحوثية هو طبيعة العلاقة الحاكمة التي تجمعها مع إيران ولمن القول الفصل في ملفات وقضايا راهنة كثيرة، وهو ما يتجلّى، بشكل أو بآخر، في عدة محطّات من هذه العلاقة، وكان أوضح اختبار لطبيعة هذه العلاقة مسألة الحديث عن السلام في اليمن، حيث ظلت هذه الجماعة طويلاً ترفض فكرة السلام فقط، لأن الطرف الإيراني كان رافضاً ذلك، وفجأة، بعد تقارب إيران والسعودية أخيراً، اندفعت جماعة الحوثي بقوة نحو ما يطلقون عليها خريطة الطريق للسلام في اليمن.
خروج الحوثيين للإعلان عن شكل نظامهم السياسي المرتجى شيءٌ مهم، خصوصاً في هذه المرحلة التي يعتقدون أنهم قد حسموا كثيراً من ملفاتها، لا سيما في ما يتعلق بالجانب العسكري، غير مدركين أن هذا الوضوح منهم يكشف، لليمنيين قبل غيرهم، أي مصير ينتظرهم في ظل بقاء الأوضاع على ما هي عليه، وأنّ أي مسار سياسي يجرى الحديث فيه عن السلام مع هذه الجماعة مجرّد وهم كبير، والسير فيه خيانة وطنية كبيرة، لا يمكن المضي فيه حتى النهاية، لأنه يعني تنازل اليمنيين عن كرامتهم ونظامهم الجمهوري والعودة مجدّداً بعد كل هذه العقود من الثورات والتضحيات مرّة أخرى إلى مربع الخرافات والعبودية التي فرّوا منها.
وختاماً، يمكن القول إن الحوثية اليوم بنسختها الراهنة أيديولوجيا هجينة من كلا الفكرتين الثيوقراطيتين، الإمامة الزيدية وولاية الفقيه الاثنى عشرية، كفكرتين مذهبيتين نقيضتين، في ما يتعلق بفكرة الإمام، حيث ترى الزيدية أنّ الإمام يجب أن يكون حاضراً في القصر فيما ترى الاثنا عشرية الإمام غائباً، وينوب عنه الولي الفقيه حتى عودته.
وهنا سيقع الحوثيون بين مأزقين، فلا هم (الحوثيون) قادرون على مواجهة اليمنيين بفكرة الإمامة نقيضاً للجمهورية التي لا يمكن أن يتخلّى عنها اليمنيون، ولا هم قادرون على تجاوز سطوة النفوذ الإيراني الذي يتخذ من ولاية الفقيه نموذجاً سياسياً له ولأتباعه، ومؤشّراً على نجاح فكرة تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية إلى خارجها، وبالتالي، اكتمال مشروع الثورة الإسلامية، التي تمهد الأرض لعودة الإمام محمد المهدي بن الحسن العسكري، الذي لا تؤمن به زيدية الحوثي.