الجزائر

الحملة الانتخابية لرئاسيات الجزائر: عمومية الخطابات وتشظي الاهتمامات

كل خطابات المرشحين لم ترق إلى مستوى إثارة النقاش الانتخابي بين الجزائريين، حتى تلك التي سعوا عبرها لملامسة مشاعر العامة عنتريا، دينيا وثقافيا

التجارب الديمقراطية، سواء العريقة في تقاليدها أو الحديثة منها، تخبرنا أن السلوك الانتخابي للشعوب هو نتاج وتتويج لحركية منظومات سياسية وقانونية تحكم العملية السياسية، وتوجه عبر الخطاب والممارسة إرادة المجتمع والفرد معا نحو ما تنشده وترومه في الآفاق من مقاصد وأهداف، إما بتكريس الديمقراطية أو تكسيرها، وبالتالي فرض إرادتها إذا لم تقابل بالندية الواعية التي تقودها النخب بوصفها رائدة وقائدة لهذا الوعي.

وفي هذا السياق التجريبي الحتمي لمعضلة السلوك الانتخابي ومآثره، كشف الخطاب السياسي الذي واكب الحملة الانتخابية للرئاسيات الجزائرية المزمع إجراؤها في السابع من الشهر المقبل، عن العديد من عناصر أزمة عدم القدرة على تحقيق الانتقال الديمقراطي والسياسي المرجو، وهذا منذ تحول البلد من الأحادية إلى التعددية مع نهاية ثمانينات القرن الفائت. عناصر تنفصل بشكل يكاد أحيانا يكون كليا عن مراصد النقد ورؤاها التي يفترض أن تسهم في ضبط الخطاب وتقويم المسارات عبر وضع كل ما يعرض من منتج سياسي على طاولة القراءة والتشريح والتصحيح.

فما طبع خطاب الحملة الانتخابية من هفوات على مستوى الخطاب والأداء السياسي فات مراصد النقد الجزائرية، وهل ثمة أصلا وجود لهذه المراصد؟

بداية، يتوجب الإقرار بأنه منذ ولوج السياسة في الجزائر مرحلة التعددية، لم تحدث القفزة التي ظلت مرجوة باتجاه وجوب التركيز على البرامج والمشاريع السياسية في الممارسة الحزبية والحملات الانتخابية، ذلك لأن المواطن الجزائري، لفرط ما عاشه وعاناه من خيبات وعدم الإرادة في التغيير، صار لا يهتم بغير رؤية وجوه جديدة على مستوى قيادة المجتمع والبلاد، ولا قيمة لما يعرض عليه مما يزعم أنه بدائل أو مشاريع سياسية جديدة.

مثل هذا الموقف سيتطور مع الأزمة الوطنية الكبرى (العشرية السوداء) التي نجمت عنه، بحيث تم فيما بعد إفراغ الساحة السياسية من قواها الوطنية الأصيلة والرئيسة، أي المعارضة الكبرى التي تولدت عن الاقتراعات الأولى لمرحلة ما بعد التعددية الأولى (1989 – 1992) ونقصد بها الجبهات الثلاث: الإسلامية للإنقاذ، التحرير الوطني، القوى الاشتراكية. تم ملء ذلك الفراغ بأحزاب بلا مشاريع وبلا رموز قيادية، فتكرست ظاهرة عدم الجدوى من السياسة لا بل ومن الانتخابات، ومع مرور الاستحقاقات وفق إيقاعها الميكانيكي الآلي الخالي من كل روح ومعنى جديد، تلاشى النقاش السياسي ومعه سيتلاشى الخطاب الانتخابي سواء لدى العارض أو المتلقي.

هذه الظاهرة ستبرز بوضوح في ثاني رئاسيات لما ينعت بالجزائر الجديدة، أي تلك التي يحاول الرسميون التأكيد على أنها وليدة الحراك الشعبي “الأصيل” حيث حاول المرشحون الثلاثة، يوسف أوشيش عن جبهة القوى الاشتراكية، عبدالعالي حساني الشريف عن حركة مجتمع السلم، وعبدالمجيد تبون الرئيس الحالي والمرشح بشكل حر، الابتعاد عن المنزع الأيديولوجي الذي كان ديدن نخب التعددية الأولى، والتحلي براغماتيا بالروح الوطنية الجامعة، كالحرص على مسألة التنوع الواحد التي شدد عليها عبدالعالي حساني مرشح حركة مجتمع السلم الجناح الإخواني للإسلامية  الجزائرية، أكثر من تشديده على الاختلاف، الذي ببعده العملي، يتجاوز قيمة لفظ التنوع ذي الدلالة الصورية.

كل خطابات المرشحين لم ترق إلى مستوى إثارة النقاش الانتخابي بين الجزائريين، حتى تلك التي سعوا عبرها لملامسة مشاعر العامة عنتريا، دينيا وثقافيا، لسبب بسيط وهو أنها ظلت حبيسة عموميات وعناوين عادة ما تلقى في المنابر الدعائية الانتخابية بالجزائر. ولقد سبق وأشرنا بالنقد إلى مسألة غياب عنصر الارتكاز في أي برنامج أو مشروع سياسي انتخابي يقدم للناس، يكون الحلقة الأساسية فيه، يمكنهم من خلاله تقييم وتقويم العهدة الانتخابية لمن يختارونه من بين المرشحين.

والأمر هنا عائد يقينا إلى عدم قدرة الساحة السياسية بالجزائر، بجناحيها الرسمي والمعارض، على إفراز المرشح المثالي الذي يحمل مشروعا ذاتيا للدولة أسسه وأعده من تراكم تجربته الشخصية والحزبية، أي يستند فيه على عبقريته الفردية وعبقرية (مشروع) ومشروعية إطاره الحزبي، لأنه ببساطة ليس ثمة حزبية حقيقية وجادة بالجزائر.

هذا الغياب للمرشح المثالي في العملية الانتخابية، سيعمل على مدار العقود الثلاثة على تغييب الناخب المثالي، الذي يفترض أنه مع توالي التجارب الانتخابية والسياسية الجادة سيتطور في مداركه السياسية وآليات تفكيكه للبرامج عبر النقاشات التي سيهتم بها أكثر فأكثر بغية فهم ما يعرض عليه من نماذج ومشاريع ومنتج سياسي.

وهكذا سيتبين للجزائريين أنهم أضاعوا ثلاثة عقود كاملة من عمر التعددية التي ولجوها كرها وليس طوعا، فضلا عن أن تكون وعيا، داخل متاهة ديمقراطية الواجهة، أي النظر في الأشكال والألوان الحزبية من يسارها المأزوم إلى وطنيتها الجامدة وصولا إلى إسلاميتها المتهاوية. بل إن إدراكه لتلك التلاوين والعناوين تلاشى ولم يعد يرى أمامه البعد المؤسسي للسياسة، لا الدولة ولا الحزب ولا المجلس التمثيلي، بل يرى فقط الشخص الذي يملك أو لا يملك ما يعطيه له من مصالح (الناخب) الخاصة.

فإذن، يتضح من خلال ما تقدم من طرح تحليلي لواقع الممارسة الانتخابية حملة ونظرة واقتراعا بالجزائر، أن مسألة طبيعة النقاش الخاص بها قد استحالت في حد ذاتها إلى حاجة وموضوع للنقاش، طالما أن طبيعة السلوك الانتخابي الذي أظهره الجزائريون كانت نتاجا لإرادة في تحريف السياسة في سياقها التعددي عن سكتها الحقيقية بغرض عرقلة مسار التغيير أن يبلغ محله.

إقرأ أيضا : الوطنيات تشيخ والسياسة تمرض.. الجزائر نموذجا

وأي مسعى إصلاحي قد يتطلع إليه البعض ممن يغارون على واقع حالهم الوطني وهشاشته السياسية، لا يُعنى أساسا بهذا الجانب الحيوي، أي تصحيح لطبيعة النقاش السياسي، عبر توجيه السهام لإشكالية النقاش بالمسألة الانتخابية بوصفها آلية سياسية لتكريس الديمقراطية كشرط سلمي وحضاري لتحقيق التغيير، سيكون (المسعى) مآله الفشل، بالنظر لما اتضح من أخطاء كبرى في خوض السبيل الصحيح نحو بناء مجتمع ديمقراطي ومتجاوز لكل إرادات الحجر والإطباق على الوعي الجمعي والفردي معا الذي فرضه النزوع الأبوي الرسمي منه والحزبي الذي طبع سلوك السياسي الجزائري منذ فترة الاستعمار، إلى واقع حاله التي يصر بعض الساسة على تسميتها بفترة الاستحمار، العبارة الشهيرة التي صكها المفكر الإيراني المغدور علي شريعتي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى