الحكومة التركية وإدارة المشاكل بدلا من حلها
حملات التحريض ضد اللاجئين وتأجيج العنصرية هي من أهم المشاكل التي هددت وما زالت تهدد أمن تركيا واستقرارها ومصالحها. وعلى الرغم من خطورة هذه المشكلة، اكتفت الحكومة بتصريحات وبيانات تستنكر تلك الحملات، ولم تتم معاقبة القائمين عليها بشكل رادع، الأمر الذي شجع الراغبين في ضرب السلم الأهلي وإشغال تركيا بمشاكلها الداخلية عن الملفات الإقليمية، على استغلال ورقة العنصرية
مر على إجراء الانتخابات المحلية الأخيرة في تركيا حوالي ثلاثة أشهر، وعقد حزب العدالة والتنمية عدة اجتماعات على مختلف المستويات لمناقشة أسباب الهزيمة التي مني بها في 31 آذار/ مارس الماضي، والأخطاء التي جعلته يتراجع إلى المرتبة الثانية في عموم البلاد، وسبل معالجتها، إلا أن عملية محاسبة الذات والتصحيح المطلوبة لم تنتقل حتى الآن من مرحلة إبداء الرغبة فيها إلى خطوات عملية تنعكس على الواقع الملموس، بل هناك مؤشرات تشير إلى أن الحزب الذي يحكم تركيا منذ أكثر من عقدين قد لا يتمكن من تغيير وضعه الحالي الذي أدى إلى تراجع شعبيته.
العوامل التي لعبت دورا في تآكل شعبية حزب العدالة والتنمية وازدياد الانتقادات الموجهة إلى سياساته؛ عديدة، وإن كان الابتعاد عن نبض الشارع يأتي على رأس تلك العوامل، فإن طريقة تعاطي الحكومة مع المشاكل والأزمات هي الأخرى تسببت في خيبة أمل لدى نسبة كبيرة من المواطنين المؤيدين لحزب العدالة والتنمية، وهي أن الحكومة في كثير من الملفات تتردد في تبني موقف حازم، وتلجأ إلى إدارة الأزمة والمشاكل بدلا من حلها.
حملات التحريض ضد اللاجئين وتأجيج العنصرية هي من أهم المشاكل التي هددت وما زالت تهدد أمن تركيا واستقرارها ومصالحها. وعلى الرغم من خطورة هذه المشكلة، اكتفت الحكومة بتصريحات وبيانات تستنكر تلك الحملات، ولم تتم معاقبة القائمين عليها بشكل رادع، الأمر الذي شجع الراغبين في ضرب السلم الأهلي وإشغال تركيا بمشاكلها الداخلية عن الملفات الإقليمية، على استغلال ورقة العنصرية.
محاولات تأجيج العنصرية لم تستهدف اللاجئين السوريين والأفغان فحسب، بل طالت أضرارها المقيمين من رجال الأعمال والسياح لتصل إلى الطلاب الذين جاؤوا من الدول الأفريقية ليدرسوا في الجامعات التركية. ولتحريض الشارع التركي ضد هؤلاء الطلاب يدّعي العنصريون بأنهم ينشرون أمراضا، مثل الإيدز، على الرغم من أن الإحصائيات تنفي ذلك جملة وتفصيلا. ويقول مسؤولون إن عدد المتقدمين للدراسة في الجامعات التركية كان يصل إلى 160 ألف طالب وطالبة من مختلف البلدان، إلا أنه تراجع إلى 118 ألفا عام 2023 بسبب حملات التحريض والعنصرية. وإضافة إلى ذلك، بدأ الأتراك يرون في الآونة الأخيرة جرائم عنف عنصرية تستهدف المواطنات المحجبات، ولا يُعتقل مرتكبوها أو يطلق سراحهم بعد ساعة أو ساعتين.
حملات التحريض ضد اللاجئين يصاحبها غالبا نشر إشاعات وأنباء كاذبة، سواء في وسائل الإعلام التقليدية أو مواقع التواصل الاجتماعي. وقامت الحكومة بتمرير قانون من البرلمان لمكافحة هذه الظاهرة، إلا أن عملية بث الأكاذيب لم تتراجع قيد أنملة. وفي آخر مثال لتلك الأنباء، انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي خبر يقول إن اللاجئين السوريين أوقفوا حافلة في مدينة أضنة وقاموا بضرب سائقها، إلا أن من ارتكبوا تلك الجريمة هم في الواقع مواطنون أتراك وليسوا لاجئين سوريين. ومن غير المتوقع أن تتم معاقبة أي ممن قاموا باختلاق هذه الكذبة وترويجها.
وهناك كمية كبيرة من الإشاعات والأنباء الكاذبة يتم ضخها يوميا بشكل ممنهج ضد الحكومة والوزراء ورئاسة الشؤون الدينية وغيرها من المؤسسات، إلا أن الحكومة تكتفي بنفيها عن طريق بيانات دائرة الاتصال التابعة لرئاسة الجمهورية.
انتشار الكلاب الشاردة في الشوارع مشكلة أخرى تطالب الأغلبية الساحقة من المواطنين بحلها، وهناك مشروع قانون تستعد الحكومة لتقديمه إلى البرلمان من أجل حل هذه المشكلة. ومن غير الواضح، حتى الآن،
تفاصيل المشروع، وهل سيشمل القتل الرحيم للكلاب أم لا؟ وفي ظل الجهود التي تبذلها أطراف مختلفة لعرقلة حل هذه المشكلة، يُخشى أن يصدر قانون لا يلبي مطالب المواطنين، أو أن لا يتم تطبيق القانون بشكل فعال.
مشكلة الكلاب الشاردة في الحقيقة ليست معقدة، ويحتاج حلها إلى تعديل القانون وتطبيقه دون تساهل، ومن المؤكد أن محاولة إدارة هذه الأزمة وتسويف حلها سيؤدي إلى تفاقم المشكلة. وهل ستكون الحكومة هذه المرة عازمة وحازمة أم ستضيِّع الحل في دهاليز مراحل تطبيق القانون وتفاصيله، أملا في أن يقتنع المواطنون بأنها تبذل جهدا لحل المشكلة، وينسوا الموضوع بمجرد صدور القانون، دون أن ينتظروا نتائج تطبيقه؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.
الحكومة التركية في كثير من الأحيان تسعى إلى إرضاء الجميع من خلال تبني أنصاف الحلول، إلا أن هناك قضايا ومشاكل ليس لها حل يرضي كافة الأطراف. وعلى الحكومة أن تعلم أن “رضا الناس غاية لا تدرك”، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله، وأن المواطنين على قدر كاف من الوعي يجعلهم قادرين على التمييز بين “العمل لحل المشاكل” و”التظاهر بالعمل لحلها”