تجتاح العالم المعاصر موجة ارتداد نحو اليمين أحياناً، إذ أسفرت انتخابات برلمانية عدة في أوروبا الديمقراطية عن عودة اليمين لمواقع السلطة بصورة ملحوظة، باستثناء الحالتين البريطانية والفرنسية، فجاء التصويت في الأولى منها عقابياً لحزب المحافظين قبل أن يكون حماسة لعودة حزب العمال، أما في الحالة الفرنسية فكان تعبيراً عن تردي الأوضاع وانعدام التوازن في سياسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
كم يشعر الإنسان بالسعادة حين يرى إرادة الشعوب وهي تجد مكانها الطبيعي والطليعي على مسرح الحياة السياسية في شفافية وشموخ، تمنيت وأنا أتابع التصويت الأخير للانتخابات النيابية في بريطانيا وفرنسا لو أن بلادنا العربية أصابتها العدوى التي تحملها الرياح الآتية من الشمال لتجد الديمقراطية الصحيحة طريقها إلى الشعوب العربية، خصوصاً مع غمار التحولات الراديكالية التي اجتاحت المنطقة العربية خلال الأعوام الأخيرة وتركت بصمات إيجابية ما زالت في طريقها إلى نخاع المجتمع تحاول أن تترك آثارها على شكل الحياة السياسية في بعض هذه الدول.
مما لا شك فيه أن سياسات الدول تتأرجح غالباً بين تأثيرات التيارات اليسارية في جانب واليمينية في جانب آخر، ويبدو أن رصد الأمر يكون سهلاً إذا كانت تلك الدول تتمتع بنظام برلماني أو شبه برلماني يتيح لنا التعرف إلى التوجهات العامة لرغبة مواطنيها إيجاباً وسلباً، ويهمنا هنا أن نرصد بعض الحالات المرتبطة بالتيارات السياسية التي تقوم بدور في توجيه سياسات الرأي العام وتحريكه نحو أهداف معينة ومن ذلك المشاهد التالية:
أولاً: عشت في الهند بنهاية سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضي وشهدت إرهاصات التحول في الحكم من اليسار المتعايش مع النظام الجديد المتجه نحو اليمين المدعوم بسياسة أميركية حتى تمكنت خلال الأعوام الأخيرة من حكم أنديرا غاندي وابنها راجيف من تكريس التيار المتحمس للنظم الرأسمالية مع الوضع الذي كان قائماً في نيودلهي من علاقات وثيقة مع الاتحاد السوفياتي السابق.
وأرسل الرئيس الأميركي جونسون سفيراً أميركياً إلى الهند خبيراً في التنمية الاقتصادية هو جيلبرث إذا لم تخنّي الذاكرة، وكان معنى ذلك أن الولايات المتحدة الأميركية تحمست للسياسة الهندية نحو النظم الرأسمالية وفقاً للأوضاع الدولية في تلك الفترة، وبدأ الاتحاد السوفياتي السابق يبتعد قليلاً من نيودلهي ولكنه لم يقطع أبداً حبال التواصل مع تلك الدولة الآسيوية الكبرى، بخاصة أن الوجود الروسي في أفغانستان كان محوراً للمواجهة بين نيودلهي وموسكو إلى أن تم حسم الأمر في هذه المرحلة بما لها وما عليها، وأقصد من هذا النموذج الهندي أن أوضح الصلة بين النظام السياسي للدول وتحالفاتها الخارجية وتوجهاتها السياسية.
ثانياً: إن المملكة المتحدة التي عصف فيها الرأي العام من خلال صناديق الاقتراع على حكم المحافظين بعد 14 عاماً متصلة هو ذاته الذي عاقب ذلك الحزب على أخطائه المتراكمة التي أدت إلى وجود أربع وزارات متتالية في العامين الأخيرين، ولم يكُن ذلك إعجاباً بالبرنامج السياسي لحزب العمال بقدر ما كان انتقاماً من فعاليات حزب المحافظين طوال تلك الفترة.
ولا بد من أن أعترف هنا بأن الساحة السياسية في معظم الدول بما في ذلك دول أوروبا الغربية أصبحت تفتقر إلى الشخصيات السياسية الكبيرة، فأنا أتذكر مشهداً مماثلاً قرب نهاية عام 1971 عندما سقط حزب المحافظين برئاسة إدوارد هيث في الانتخابات التشريعية وحل محله زعيم حزب العمال حينذاك هارولد ويلسون الذي خرج على الجماهير المحتشدة أمام “10 داونينغ ستريت” مقر الحكم ليقول إن لدينا مهمة نسعى إلى القيام بها وها نحن نبدأها.
كان ذلك زمن السياسيين الكبار من أمثال هيث وويلسون وجيمس كالاهان، وصولاً إلى من زاحم اسمها في التاريخ اسم ونستون تشرتشل وأعني بها السيدة مارغريت تاتشر رائدة الخصخصة في الاقتصاد البريطاني وهي التي خرجت منتصرة أيضاً من “حرب الفوكلاند” واستعادت سيطرة المملكة المتحدة على تلك الجزر البعيدة.
ثالثاً: إن الساحة السياسية الفرنسية تبدو مختلفة، فالنظام الفرنسي يمزج النمطين البرلماني والرئاسي ويفتح دوراً حاكماً في فلسفة الدولة على رغم صلاحيات الرئيس الفرنسي التي لا تبدو قليلة، وعانت فرنسا هي الأخرى شخصيات عادية في الرئاسة بعد رحيل الزعيم الظافر شارل ديغول والرئيس الاشتراكي الداهية فرانسوا ميتران وحتى جاك شيراك لتفِد إلى الإليزيه شخصيات عادية لم تترك أثراً يذكر على صفحات السياسية الفرنسية المعاصرة، إلى أن جاء الرئيس الفرنسي الشاب ماكرون بغير تاريخ سياسي طويل بل بنمط مختلف في الحكم وأسلوب مواجهة الرأي العام والقدرة على مواجهة التحديات، ولعله لم يحسن التوقيت للانتخابات التشريعية التي جاءت على غير ما يتوقعه أو يتطلع إليه بفوز اليسار الفرنسي، وجاء فوز حزب العمال صدى لفوز اليسار البريطاني على الجانب الآخر وسط بحيرة كبيرة من الحكومات الرأسمالية على امتداد الساحة الأوروبية.
رابعاً: إن النظم السياسية العربية تبدو في مجملها رئاسية ديمقراطية يقوم بعضها على أسس مستقرة من الوراثة الملكية فضلاً عن بعض أنماط حكم الملكية الدستورية، إلا أن الدولة البرلمانية لا تبدو ذات وجود حاسم على الساحة العربية عموماً، وقد اقترن ذلك بتغييرات كبرى على الساحة الدولية والسياسات الإقليمية، فضلاً عن الصراعات المزمنة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وملابساتها وتطوراتها، كذلك فإن النمط السياسي العربي السائد يقوم في معظمه على المشاعر الأخوية أكثر منه اعتماداً على القواعد القانونية.
والنظم العربية عموماً لا تخضع لتقسيم اليمين واليسار ولكنها قد تكون أقرب إلى تقسيم آخر بين مشروع قومي وتأثير ديني، وليس هناك شك في أن الصراع العربي- الإسرائيلي يقف مناوئاً للقوى الأجنبية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ورغبتها في السيطرة على مقدرات المنطقة وسياساتها على نحو يخدم مصالح واشنطن مع بروز قوى إقليمية أخرى أهمها إيران التي ظهرت على السطح منذ فبراير (شباط) 1979، فأصبحت طهران رقماً صعباً في سياسات الشرق الأوسط وغرب آسيا بل شمال أفريقيا أيضاً لأن الكل أصبح يدرك أننا مقبلون على حال من الاستقطاب السياسي والسيولة النظرية التي طرأت على نظم الحكم ووجود بعض منها لا يخضع لتوصيف محدد أو تقسيم بذاته.
كما أن نشأة بعض الدول العربية اقترنت بتقاطعات عشائرية وقبائلية تجعل الجانب الإنساني على المستوى الوطني أقوى بكثير منه على المستويين القانوني والعصري، فالدولة العربية نشأت في ظل ظروف مختلفة من دولة لأخرى وظلت دائماً قائمة على الترابط البشري أكثر منه ترابطاً دستورياً أو قانونياً.
خامساً: إن ما أثارته الانتخابات البريطانية والفرنسية في أسبوع واحد يفتح الباب أمام توقعات ذات تأثير في المجتمع الدولي بأسره، فإذا كانت الدولة الأميركية تمثل في نظرنا أقصى درجات اليمين الرأسمالي، فإن الدول الأوروبية الغربية ليست على المستوى ذاته من التزام قوانين السوق وحرية التجارة والمظاهر الرأسمالية الحديثة كافة، وذلك لا يعني بالطبع أن الغرب الأوروبي يختلف عن الغرب على الجانب الآخر من الأطلسي ولكن اللافت للأمر أن الخلافات الأميركية بين الحزبين الحاكمين تدور في القضايا الفرعية ولا تمس غالباً القضايا الخارجية، فالديمقراطيون والجمهوريون يتبارون في دعم إسرائيل وحمايتها وإمدادها بكل أسباب التعنت السياسي والغطرسة الإقليمية، وذلك يعني أن التأرجح بين اليمين واليسار ربما ينسحب على الدول الأوروبية وبعض الدول الآسيوية أو اللاتينية ولكنه لا يبدو ظاهرة واضحة في غيرها من الدول التي لا تمثل فيها الفوارق بين اليمين واليسار ما يمكن تسميته “تحولاً سياسياً جذرياً”، ولقد ضربنا أمثلة بالهند الآسيوية وفرنسا وبريطانيا الأوروبيتين ثم النموذج الأميركي المتفرد وهو نظام رئاسي بحت يسعى إلى إثبات وجوده من خلال إعلاء قضايا الحريات ومظاهره المختلفة حتى لو جاء الجوهر مخالفاً لذلك كما هو واضح مثلاً في الموقف الأميركي من الصراع العربي- الإسرائيلي.