يتم اللجوء إلى الأدوات العسكرية عندما تظهر علامات انسداد في الأدوات الناعمة لحل الأزمات، وتعيش ليبيا حالة جديدة من التجاذبات السياسية تذكّر بما كانت عليه الأوضاع قبل اتفاق جنيف وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، فقد عادت المناوشات بين الأجسام المختلفة، الشرعية وغير الشرعية، والمنتخبة والتي اكتسبت وجودها بالأمر الواقع، وبات الموقف على وشك انفجار، ما لم تحدث تحركات عاجلة لإنقاذ ليبيا.
تشير الخارطة العامة إلى تغير في التحالفات، الخاسر الكبير فيه هو حكومة عبدالحميد الدبيبة في طرابلس، والتي انتهت ولايتها ولا تزال تمارس دورها بزعم أنها “شرعية” ومدعومة من المجتمع الدولي، لكن قوى عدة في هذا المجتمع ضجّت من تصرفات رئيسها وبدأت تبتعد عنه، عقب استهداف رئيس المصرف المركزي الصديق الكبير والاعتماد السافر على الميليشيات، والدخول في خلافات مع جهات كانت قريبة منه.
سمح غياب المبادرات السياسية عن ليبيا حاليا بزيادة التفكير في الحسم العسكري، والجهة الوحيدة التي تملك قوة تمكنها من اللجوء إلى هذا الخيار هي الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، والذي يسيطر على نحو 75 في المئة من الأراضي في شرق ليبيا وجنوبها، وله تجربة فاشلة جرت خلال الفترة من أبريل 2019 إلى يونيو 2020 لدخول العاصمة طرابلس، حيث تصدت له جماعات مسلحة التقت عند وقف زحفه، مدعومة من قوات تركية ومرتزقة جلبتهم من أماكن مختلفة لهذا الغرض.
جدد زحف قوات من الجيش الليبي على منطقة غدامس في جنوب غرب ليبيا مؤخرا الحديث عن تكرار سيناريو العودة للحسم العسكري ودخول طرابلس عنوة، ومع أن الزحف لم يكتمل فقد تم تفسيره على أنه هدف إلى مطاردة العناصر الإرهابية القادمة من منطقة الساحل الأفريقي وتريد التسلل إلى الأراضي الليبية.
غير أن قناعات الكثير من المتابعين لم تتقبل هذا التفسير، لأن المنطقة تعج منذ سنوات بمتطرفين عابرين للحدود والتعامل معهم حاليا يتم وفقا لتوازنات دولية دقيقة، أطرافها روسيا وقوات فاغنر الداعمة لبعض الحكومات المحلية – العسكرية في الساحل، والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية الغاضبة من تطور التعاون بين الطرف الأول، والجماعات المتشددة التي تحالفت مع بعض القوى القبلية والجهوية.
ولا توجد فواصل نهائية بين الأطراف الثلاثة تجعل كلا منها مستقلا تماما، لأن التعقيدات التي تكتنف هذه المنطقة تسمح بقدر من المرونة والتشابك في التوجهات، ودخول قوات الجيش الليبي على هذا الخط ولو من بعيد يمكن أن يسبب له منغصات في الوقت الراهن، ويثّبت معلومات غربية راجت حول علاقته الوطيدة بموسكو، وما تردده وسائل الإعلام بشأن تشكيل ما يسمّى بـ”الفيلق الأفريقي” بقيادة روسيا، كدليل على طموحاتها التوسعية، ويستهدف المزيد في التقدم داخل وسط القارة وغربها.
توقفت عملية السيطرة على غدامس، التي تمثل مدخلا إستراتيجيا للتقدم نحو طرابلس، لكن لم يتوقف حلم المشير حفتر في العودة مرة أخرى وتعويض خسارته السابقة، بعد أن استوعب دروس الزحف السابق وعبره وأخطاءه والذي حدث في أجواء لم تكن مواتية، بينما هذه المرة توجد استعدادات أكبر لهذه الخطوة، وربما التمهيد لها، حيث فهم من قرار مجلس النواب سحب صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة من رئيس المجلس الرئاسي وتخويل رئيس البرلمان بدلا منه، على أنه دعم لمعسكر شرق ليبيا، ودفعة سياسية لقائد الجيش الوطني.
أصبحت قوات الجيش الليبي أكثر جاهزية، وتلقت معدات عسكرية الفترة الماضية من جهات مختلفة، تم الحديث عن روسيا، وهناك مخاوف أوروبية من تراكمها وتضخمها، بينها طائرات مسيّرة متقدمة يمكن أن تلعب دورا مهما في معارك طرابلس المتوقعة ومحيطها.
وما يمنح حفتر جرأة مضاعفة للذهاب إلى سيناريو الزحف نحو العاصمة هو تضعضع أو اهتزاز موقف الجماعات المسلحة، وزيادة انقساماتها وتغير ولاءات البعض منها، إذ نجح حفتر في عقد تحالفات مع عدد من الجماعات المسلحة في طرابلس التي تصدت له في المرة السابقة، وذلك بانضمامها إليه أو وقوفها على الحياد.
أضف إلى ذلك، تحول موقف تركيا من بعض القضايا الإقليمية التي دفعتها إلى تطبيع العلاقات مع مصر، وكانت الأزمة الليبية والانخراط فيها عسكريا وسياسيا واحدة من الملفات التي أسهمت في توتير علاقتها بالقاهرة، المعروف دعمها لقادة الجيوش، وبينها الجيش الوطني الليبي، ووقوفها ضد انتشار الميليشيات والمرتزقة عموما.
ولذلك يتوقع المشير خليفة حفتر أن يكون موقف تركيا مختلفا هذه المرة إذا قرر توجيه قواته نحو طرابلس، خاصة أن اتصالات حصلت بينهما، بما يفيد الحفاظ على مصالح أنقرة في ليبيا. ووفقا للمنهج البراغماتي الذي تدير به قيادتها السياسة الخارجية لن يكون هناك تمسك بالدبيبة أو اختلاق مواجهة جديدة ضد حفتر.
زاد يقين المشير حفتر بأن الموقف الدولي موات الآن للحسم العسكري، في ظل انهماك قوى عديدة بما يجري في الشرق الأوسط من صراعات، وتراجع الأزمة الليبية في أجندة المجتمع الدولي، وعدم الرغبة في طرح مبادرات والتفرغ لها، مع تزايد التشرذم بين القوى الليبية، وحالة اللاشرعية التي تنخر عددا من الأجسام السياسية في طرابلس، ويحتاج ضبطها إلى تدخلات كبيرة.
علاوة على ما تمخض من تجربة قوات الدعم السريع في السودان الفترة الماضية، والتي دخلت قتالا طويلا ضد قوات الجيش، وسيطرت على مناطق كبيرة في العاصمة الخرطوم وولايات أخرى، تبلغ مسحتها 70 في المئة، ولم يتصد لها المجتمع الدولي.
إقرأ أيضا : قيس سعيد يغلق قوس الدولة العميقة سياسيا
ولدّت هذه التجربة قناعة أخرى لدى حفتر بأن القوة هي السلاح الناجع في حسم الأزمات المعقدة، وأن الرهان على تحرك المجتمع الدولي بصورة سياسية إقرارا لقانون أو حفاظا على شرعية لن يحدث ما لم تكن هناك تحولات عسكرية عملية على الأرض، ما يجعل قائد الجيش الليبي يفكر جديا في دخول طرابلس.
كما أن القوة الضاربة في مصراتة ليست على استعداد للدفاع عن الدبيبة أو خوض معركة طاحنة لصالحه ضد القوات القادمة من الشرق، وأن أطرافا عدة في مصراتة لم تعد رافضة لتفاهمات مع معسكر حفتر، فخلال الفترة الماضية تدفقت مياه سياسية في هذه القناة وجرت حوارات تقلل نتائجها من فرص الاقتتال والضحايا في طرابلس.
ربما يكون حديث بعض وسائل الإعلام في ليبيا والجزائر عن خيار الحسم العسكري من جانب حفتر مؤخرا أجهض عنصر المفاجأة التي كان يريدها، لكن ما يدعم العودة إليه أن الأوضاع في طرابلس على وشك انفجار قد يكون أشد ضراوة مما حدث سابقا، وأن التحرك نحو ترتيبات جديدة في ليبيا يأتي غالبا بعد تطورات كبرى.