الحريري والرهان على التسوية وسط حزام النّار
هل سيكون الحريري رجل السعودية الذي توافق عليه إيران أم رجل إيران الذي توافق عليه السعودية؟
يُكثِر محيط الرئيس سعد الحريري من الحديث عن التسوية الكبيرة في المنطقة، بصرف النظر عمّا يجري في “حزام النار” من العراق إلى سوريا وجنوب لبنان وفلسطين والبحر الأحمر، وكما لو أنّ الزمان أخذ وقتاً مستقطعاً في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وهم ينتظرون استئنافه فور وقف إطلاق النار.
خلف هذا الكلام رهان على أن يكون الحريري رجل التسوية بين السعودية وإيران، وافتراضٌ أنّ بالإمكان “تركيب” تسوية على غرار تسوية 2016، تأتي بسليمان فرنجية رئيساً وبالحريري رئيساً للحكومة أو من يسميه.
انتهز الحريري مقابلته مع قناة الحدث ليمرّر رسالة الترحيب بما سمّاه “السلام” الآتي بين دول المنطقة، مستطرداً بأنّه يقصد إيران لا إسرائيل. وقال كلاماً يمكن صرفه كإغلاق لملفّ الدم بينه وبين الحزب، إذ أحال ملفّ اغتيال والده الشهيد رفيق الحريري إلى حكم التاريخ القائل: “وبشّر القاتل بالقتل ولو بعد حين”. وكان صريحاً في نسبة الجريمة إلى أفراد من الحزب تتكفّل العدالة الإلهية بقتلهم في سوريا أو غيرها من أرض الله. هكذا يأخذ الحريري بنصيحة وليد جنبلاط له بأن ينتظر على ضفّة النهر مرور جثّة القاتل، و”كفى الله المؤمنين القتال” والمعارك السياسية.
على أنّ الأبرز كان ما أضافه الأمين العامّ لتيّار المستقبل أحمد الحريري في مقابلة على قناة الجديد حين قدّم سرديّة جديدة لاغتيال الحريري، قائلاً إنّ الهدف من ذلك الزلزال كان “إشعال فتنة سنّية شيعيّة”، من دون أن يوضح من الذي أراد إشعال الفتنة: هل هم أفراد من الحزب؟ أم الحزب نفسه؟ إيران أم النظام السوري؟ أم أميركا وإسرائيل؟
يحلّ الخطاب الجديد مكان السرديّة الاستقلاليّة التي كانت وقود ثورة 14 آذار 2005، وحكمت الإطار العامّ للخطاب السياسي للفريق السيادي على مدى عقدين من الزمان. وليس من قبيل المصادفة أن تكون السردية الجديدة مطابقة لما قاله الأمين العامّ للحزب السيد حسن نصر الله في أوّل خطاب له بعد اغتيال الحريري عام 2005. يومها وصف نصر الله الرئيس الشهيد بأنّه “الجسر” الذي كان يربط بين محوره والفريق الآخر المناوئ للوجود السوري في ذلك الحين، ليضع الاغتيال في سياق “الفتنة”، ولا شيء إلّا الفتنة.
يشكّل رهان الحريري محطّة أخرى في مسار التسويات التي اتّخذها خياراً منذ أن دخل الحياة السياسية، وكانت أولاها الانخراط في اتفاق الدوحة في أيار 2008، ثمّ تشكيل حكومة الثلث المعطّل بعد انتخابات 2009، ثمّ الذهاب إلى سوريا في رعاية تسوية الـ”سين سين”، وفي تلك المرحلة كان العمل جارياً على تسوية شاملة مع الحزب كان من المرسوم لها أن تقطع علاقة لبنان بالمحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة قتلة الرئيس الشهيد، لولا أنّ التسوية الإقليمية انهارت وسقطت معها حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الحريري. أتى بعد ذلك ربط النزاع مع الحزب في ظلّ اشتعال الحرب في سوريا، وانتهى الأمر بانتخاب عون رئيساً في 2016.
يودّ فريق الحريري أن يقنع نفسه بأنّ العطف الشعبي الذي لاقاه في زيارته الأخيرة للبنان فيه شيء من التقبّل المتأخّر لخيارات التسوية تلك بعدما كان الشارع يلاقيها بالخيبة والإحباط. ويفوت هذا الفريق أنّ مشكلة “الحريريّة السياسية” في عهدة سعد لم تكن يوماً في الخيارات التي يتّخذها بقدر ما هي في قدرته على إدارة تلك الخيارات وحماية موقعه وموقع ساحته وشارعه في التسويات.
فشلت تسوية 2009 ليس لأنّ الشارع رفضها، بل لأنّ أداء الحريري لم يكن مقنعاً فيها، ولأنّها سقطت في نهاية المطاف باستقالة الثلث المعطّل من حكومته. ويصحّ الأمر نفسه على انتخابه لميشال عون. فقد انتهى الأمر بجبران باسيل متسلّطاً على مجلس الوزراء، ورئيساً لحكومة داخل الحكومة، وانهار الاقتصاد وانهارت الحكومة.