ما ظهر بفجاجة مثيرة للاهتمام خلال هذه الشهور هو ما قاله بعض المحللين وأصحاب الخبرة في المجال العسكري، وحتى السياسي، عن استنزاف إسرائيل في غزة من قبل الفصائل الفلسطينية في قنوات فضائية كثيرة تستضيفهم. منذ أكثر من خمسة عشر شهرًا ونحن نسمع عن عدم سيطرة الاحتلال على غزة، وأن العدوان على القطاع لم يحقق أهدافه. وفي نفس الدائرة التي لا يخرج عنها هذا المحلل أو ذاك، كلام مزين ومنمق دون أن يصل المستمع إلى ما يريد.
المستمع يروم معرفة حقيقة ما يجري على أرض غزة تمامًا. صحيح أن هناك قنوات فضائية تنقل الأحداث أولًا بأول، ولكن التفاصيل الكاملة لم تنقل كما يجب. وفي حال وضعت الحرب أوزارها، سنسمع ونشاهد كثيرًا من الحقائق، ونصطدم بالكثير من الأحداث التي لم تعرض على شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي.
والحال أن جوهر المشكلة هنا ما تردد مؤخرًا من بعض المحللين بأن ما يجري في غزة هو حرب استنزاف، لقد استوقفني ما قاله بعضهم. وبالعودة إلى حرب الاستنزاف بين إسرائيل ومصر بين عامي 1969 و1970، فإن تلك الحرب لم تدم كما هي الحرب في غزة اليوم. والجانب المهم أنها كانت بعيدة عن تجمعات المدن والسكان. إذن، هناك اختلاف كبير بين الحرب المصرية – الإسرائيلية وبين ما يجري اليوم في غزة. هذا هو فصل الخطاب. لقد كان وما زال أهل غزة ضحية هذه الحرب التي أطلق عليها المحللون حرب استنزاف. المفروض أن يستنزف الجيش والمعدات وليس الأبرياء.
لا بد من الوقوف على معنى حرب الاستنزاف. حيث تعرّف الموسوعة الدولية للحرب العالمية الأولى حرب الاستنزاف بأنها “العملية المستمرة لاستنزاف الخصم من أجل إجباره على الانهيار الجسدي من خلال الخسائر المستمرة في الأفراد والمعدات والإمدادات أو استنزافه إلى الحد الذي تنهار فيه إرادته في القتال.” إسرائيل خسرت ولا شك في العناصر والعتاد، وفي حال خسرت دبابة تأخذ عشرة، فخزائن السلاح الأميركية مفتوحة لها، وكذلك الجنود هناك العشرات ممّن يأتون من الخارج ليحاربوا في صفوفها. المعلوم أن إسرائيل منذ زمن بعيد وخصوصًا في الحروب لا تدفع جنودها للمحاربة في الصفوف الأولى.
على هذا يمكن القول إن إسرائيل وبنيتها القتالية العسكرية ما زالت قوية. ثمة جسر جوي بينها وبين الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا. لقد مدت الولايات المتحدة والغرب إسرائيل بالرجال والعتاد. في المقابل، لم تحمِ إيران حليفة حماس إسماعيل هنية عندما اغتيل على أراضيها. حقًا إنها مفارقة.
اقرأ أيضا| نداء من قلب غزة
الفصائل الفلسطينية وبالأخص حماس فقدت أهم رموزها، وهم على التوالي نائب رئيس حركة حماس صالح العاروري، وإسماعيل هنية، ويحيى السنوار، ومحمد ضيف وغيرهم. وخسرت غزة حيث فقدت ما يقارب 50 ألفا من أهلها، وما يزيد عن مئة ألف مصاب وما زالت الحرب دائرة. ألا يعتبر ذلك خسارة فادحة؟ ما زلنا نقول إن إسرائيل لم تحقق أهداف الحرب. احتلت شمال القطاع وقسّمته إلى مربعات أمنية، وشردت ما يقارب المليون غزي من الشمال، بالإضافة إلى الجوع والمرض وغيرهما. وعاد سكان الشمال في إسرائيل إلى مساكنهم، وهدأت جبهة الشمال تمامًا. هذه الحقيقة التي يجب أن نقر بها. فأيّ استنزاف هذا!
ما رشح حول طبيعة الصفقة التي يتم وضع اللمسات الأخيرة عليها في القاهرة، وفي حال قٌدّر لها أن تخرج إلى النور، نجد أن سقف حماس حول تبادل الأسرى هبط بشكل كبير. حسب الأخبار، سيطلق سراح 250 أسيرا فلسطينيا من أحكام المؤبد مقابل 24 إسرائيليًا. وبعد هذا العدد يبقى لدى الفصائل الفلسطينية من رهائن 70 – 75 إسرائيليًا. لو طبق هذا الاتفاق على باقي الأسرى من الطرفين، تكون إسرائيل قد أفرجت عن ألف أسير مقابل جميع الرهائن الإسرائيليين لدى حماس.
لنعد إلى الخلف منذ بدء طوفان الأقصى عندما صرح أحد قادة حماس يجب الآن أن نعمل صفقة، تبادل 200 أسير إسرائيلي مقابل جميع الأسرى الفلسطينيين والذي كان عددهم وقتئذ 4500 أسير. اليوم يبلغ عدد الأسرى الفلسطينيين ما يقارب 12000 أسير. المختصر، رهانات حماس على تبييض السجون باتت في حكم الفشل. أما عن حجم الدمار الذي نشهده في غزة، فحسب صحيفة هآرتس الإسرائيلية، تقديرات في الجيش الإسرائيلي أن نحو 70 في المئة من المنازل في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة قد هدمت بشكل كامل. بيانات للجيش الإسرائيلي تظهر أنه أجبر 96 ألف فلسطيني على مغادرة مخيم جباليا خلال الحملة الأخيرة على المخيم ومحيطه. فالتقديرات الأولية تشير إلى أن قطاع غزة في حاجة إلى ما يقارب 100 مليار دولار لإعادة الإعمار، هذا في حال خروج إسرائيل نهائيًا من قطاع غزة. ولعل حركة حماس تصورت أنها بأسر العديد من الإسرائيليين يوم 7 أكتوبر 2023، امتلكت ما يقصّر يد إسرائيل الطويلة.
خلاصة ذلك، لا يستساغ أن يطلق على ما يجري اليوم في غزة حرب استنزاف. هناك درس مهم يستخلص من هذه الحرب، خسرنا الكثير، وأهم ما خسرناه قطاع غزة. فحسب الخبراء البيئيين، قطاع غزة لا يصلح بعد الحرب للعيش الآدمي، فضلًا عن الخسائر في الأرواح.
إذن كيف يدّعي خبراء التحليل العسكري أنها حرب استنزاف؟ وما تريد هذه المناقشة الوجيزة الخلوص إليه هو أنه بعد سقوط بشار الأسد احتلت إسرائيل شريطًا كاملًا في القنيطرة وجبل الشيخ. يا حبذا أن نسمّي الأشياء بمسمياتها وأن نكون محايدين في تحليلاتنا.