تشارف أطول حروب إسرائيل على إنهاء شهرها السادس وما زال جيشها غارقا في رمال قطاع غزة، لتسقط بذلك الأسس الذي تقوم عليه العقيدة العسكرية الإسرائيلية والمتمثلة بالحرب الخاطفة، التي تعتمد المفاجأة والخفة وتوجيه الضربة الماحقة وحسم المعركة وقطف الانتصار في بضعة أيام.
وتقوم العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي صاغها دافيد بن غوريون عام 1953 على ثلاثة أضلع هي، “الردع”، “الإنذار المبكر” و”الحسم”، أضافت لها لجنة “مريدور” التي تشكلت عام 2006 بطلب من وزير الأمن، في حينه، شاؤول موفاز، في عهد حكومة أريئيل شارون، لفحص التحديات الجديدة التي تواجهها إسرائيل وتحديث العقيدة الأمنية، أضافت لها ضلعا رابعا هو “الحماية”.
قائد أركان الجيش الأسبق، غادي آيزنكوت، أوضح هذه الرؤية في وثيقة صدرت عن “معهد أبحاث الأمن القومي” عام 2019، أن مصلحة إسرائيل القومية تتطلب توفير القدرة على الحسم وانتصار للجيش الإسرائيلي في أي مواجهة عسكرية وأمام أي عدو لإزالة التهديدات المحدقة بالسرعة الممكنة وتعزيز قوة الردع، كذلك فإن تقصير مدة الحرب لها أهمية خاصة في تقليص الضرر المحتمل للجمهور وبنى الدولة التحتية والتسبب بشلل السوق الاقتصادي.
أما خليفة آيزنكوت، الجنرال أفيف كوخافي، فقد وعد مع تسلمه منصبه بتحويل الجيش الإسرائيلي إلى “جيش فتاك” وحول إيديولوجيته تلك إلى تركة ورثها للجيش، كما يقول الباحث في الشأن العسكري، يغيل ليفي، إذ عمل رغم الانتقادات التي وجهت له، على أن يكون هذا الهدف في قلب الخطة متعددة السنوات المسماة “قوة الدفع” التي أعلن عنها عام 2020 معلنا عن العمل على تعظيم القوة القاتلة من حيث بالحجم والدقة، وفي نهاية مناورة جرت في آب من نفس السنة قال كوخافي، إنه في كل مرحلة من مراحل الحرب يجب فحص قوة العدو والأهداف التي جرى تدميرها وليس احتلال المنطقة فقط،
الباحث أيال فايتسمان لفت في تحليله للمعركة التي خاضتها وحدة المظليين بقيادة كوخافي في مخيم بلاطة خلال عملية “السور الواقي” عام 2002، إلى أن كوخافي ركز على قتل المقاتلين الفلسطينيين ومنعهم من الهرب، وأشار إلى أن “تكتيك القتل” الذي يتبعه كوخافي من شأنه أن يغير أهداف الحرب التقليدية، بحيث يصير الجيش لا يقتل جنود العدو لكي يسيطر على منطقة إستراتيجية يتواجدون بها، بل يسيطر على منطقة إستراتيجية مؤقتا بهدف قتل جنود العدو، ويصبح القتل هو هدف الهجوم وليس نتيجة له.
إلا أن ليفي يعتقد أن كوخافي وصل إلى قيادة الجيش الذي يحمل هذه العقيدة، وليس العكس، وهو لم يأت من فراغ، ولذلك من الجدير التوقف عن نقطة الالتقاء بين القيم الخاصة التي جلبها كوخافي وبين الملامح البارزة في الثقافة السياسية الإسرائيلية وفي مقدمتها أداء الجيش في ظروف الجمود السياسي وتأثير ملف الجندي إليئور أزاريا الذي أعدم الشاب الفلسطيني عبد الفتاح الشريف في الخليل عندما كان ينزف.
كوخافي لم يلجم المستوى السياسي كما فعل سلفه، بل قام بتسهيل أوامر إطلاق النار وسمح بقتل الفلسطينيين الذين ألقوا الحجارة والزجاجات الحارقة دون أن يشكلوا أي خطر، وأكد أن القتل ليس صفة سلبية في دولته، بل هو قيمة يجب الطموح إليها دون تردد في بلورة هوية الجيش، وقد لخص كوخافي نظريته في خطاب ألقاه في أيلول الماضي بالقول إن العقيدة العسكرية وتطبيقها يعبران عن مبدأ أساسي هو نتاج مضبوط للإبادة بواسطة الهجوم وإطلاق النار بمشاركة قوات مختلفة. وهو ما قاد الباحث يغيل ليفي إلى استنتاج بأن مصطلح الإبادة الجماعية الذي يثير الغضب في أوروبا لا يثير أي اهتمام في إسرائيل وأن القتل وإنتاجه هو الميراث الثقافي الذي تركه كوخافي وراءه.
وصولا إلى حرب الإبادة الجارية في غزة يشير ليفي إلى العديد من مظاهر القتل المنفلت من كل عقال والتي تدلل على هذه الثقافة أبرزها، القائد العسكري براك حيرام، الذي أمر بقصف بيت يحوي مدنيين إسرائيليين في غلاف غزة، وقام بتفجير الجامعة الإسلامية في غزة، ثم انبرى في مقابلة مع إيلانة ديان إلى تحذير القيادة السياسية من إجراء أي مفاوضات سياسية.
وإذا كان يغيل ليفي مجرد باحث أكاديمي في الشأن العسكري فإن يتسحاق بريك هو جنرال احتياط و”نبي غضب” إسرائيلي، حذر وأنذر منذ سنوات طويلة، واجتمع إليه نتنياهو أكثر من مرة عشية الحرب وخلالها، وها هو يشبه في مقال نشرته “هآرتس”، اليوم، إسرائيل بالسفينة “تايتانك” تقف على خط التصادم مع جبل الجليد، ويرى أن إسرائيل تمر بعملية تحطم في الأمن القومي وأنها تغرق في المستنقع الغزي وتفقد القدرة على تحرير الأسرى أحياء وتواصل خسارة مقاتلين في المناطق التي احتلتها.
بريك يفند الادعاءات المتعلقة باحتلال رفح وإغلاق محور فيلادلفي ويعتبرها غير واقعية، “لأن القطار قد فات”، وحتى لو نجحت إسرائيل في القضاء على كتائب حماس الأربع في رفح وأغلقت محور فيلادلفي تماما، سيبقى عشرات آلاف المقاتلين الحمساويين منغمسين بين الـ1.4 مليون من اللاجئين، في حين أن اقتحام رفح في هذه الأجواء الدولية المعادية لإسرائيل وفي ظل الوضع الإنساني الخطير وبغياب إدارة دولية تستبدل إدارة حماس المدنية، اقتحام رفح سيضع إسرائيل في الموضع الذي وجدت فيه جنوب إفريقيا – الأبرتهايد – في حينه وسيكون المسمار الأخير في نعش إسرائيل.