استقبلت إسرائيل برضى وبترحاب تصريحات الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، التي دعا فيها إلى إطلاق المحتجزين الإسرائيليين وهدد بـ»عواقب من الجحيم في الشرق الأوسط»، إذا لم يتم الإفراج عنهم قبل دخوله إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني المقبل.
وشكر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الرئيس المنتخب ترامب، ووصف تصريحه بأنّه «قوي وحازم ويحسم بأن هناك طرفا واحدا مسؤولا عن عدم التوصّل إلى صفقة»، قاصدا حركة حماس. ونقلت بعض المصادر عن حماس أن غاية التصريحات ليس الضغط عليها وحدها، بل وفي المقام الأوّل على الوسطاء في مصر وقطر وتركيا، لتكثيف الجهود لإجبار حماس على التراجع عن مواقفها المعروفة، مضيفة أن لا جحيم أكبر من الجحيم الحقيقي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني في غزة، في ظل جريمة الإبادة الجماعية والدمار الشامل.
لم يرشح إلى الآن أن أحدا من الأطراف غيّر رأيه ومواقفه بشأن المسائل المحورية لصفقة في غزة وهي: وقف الحرب والانسحاب الإسرائيلي وتبادل المحتجزين الإسرائيليين بأسرى فلسطينيين، لكن هناك متغيّرات وازنة ولها تأثير على مجرى ومضامين الاتصالات الجارية في هذا الموضوع. أوّلها التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار على الجبهة الشمالية، وثانيها التغيير المرتقب لساكن البيت الأبيض، وما يتبع ذلك من تحوّلات في السياسات، وثالثها تقارير الأجهزة الأمنية الإسرائيلية حول الخطر على حياة المحتجزين الإسرائيليين في ظل الظروف المعيشية الصعبة في غزة، ورابعها التحوّلات الجارية في منظومة الوساطة ودخول تركيا إليها، وخروج مصر بمبادرة جديدة، وتراجع قطر خطوات إلى الخلف، مع التأكيد أنها ليست مستعدة لمواصلة لعب دور إذا لم تلمس جدية في تفاوض المتفاوضين.
وأبدت حركة حماس مرونة بشأن التفاوض ومضامين الصفقة، ومدة تنفيذها وتدرّجها، شرط الالتزام بالمبادئ الأساسية وهي أن تفضي العملية في النهاية إلى وقف دائم لإطلاق النار وإنهاء الحرب، وانسحاب كامل وشامل لجيش الاحتلال وصفقة تبادل «مشرّفة» تشمل إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين كافة، مقابل تحرير مئات الأسرى الفلسطينيين، ومن بينهم ذوو المحكوميات العالية. وبرز في مفاوضات القاهرة، هذا الأسبوع، أن حماس مستعدة للتخلي عن حكم غزة وتسليم المهام السلطوية كافة إلى حكومة تكنوقراط فلسطينية متفق عليها، تتولى إدارة الحياة في غزة حاليا وإعادة الإعمار لاحقا.
كثر الحديث في إسرائيل هذا الأسبوع عن تقدم في المفاوضات، ويظهر أن نتنياهو معني بخلق الانطباع أن شيئا ما يحدث في الكواليس، وأن حكومته تقوم بمساع حثيثة، وأن المسؤولية تقع على حماس وليس عليه. ويمكن القول إن قسطا كبيرا من الصخب هو ضجة مفتعلة ومناورات إعلامية لامتصاص غضب أهالي المحتجزين، وإزاحة التهم عن نتنياهو. هذا لا ينفي أن هناك تحرّكات واتصالات بشأن الصفقة، لكن لا يمكن الاتّكاء عليها لتسويغ وتأسيس حالة تفاؤل وحتى تفاؤل حذر، فلم ينجح أحد إلى الآن بإيقاد النور في نهاية النفق.
هناك أغلبية ساحقة في الرأي العام الإسرائيلي تريد التوصل إلى صفقة تبادل، تشمل تبادلا للأسرى ووقفا للحرب على غزة، وهناك إجماع حول ذلك في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية: الجيش والموساد والشاباك، وهذا هو رأي غالبية النخب الإسرائيلية. العائق الوحيد هو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يراوغ ويناور ويحاول كسب الوقت للتهرب من مستحقات الصفقة، باختلاق الأعذار والتبريرات ووضع العراقيل.
ولكنّه نجح في تجنيد الإدارة الأمريكية الحالية والإدارة المقبلة إلى جانبه، وجعل المسؤولين الأمريكيين يرددون ادعاءاته كالببغاوات، ويحمّلون حماس مسؤولية تعثر جهود الاتفاق على صفقة. ويقول صحافيون تحدّثوا مباشرة مع الإدارة الأمريكية بأن المسؤولين كافة فيها يحمّلون نتنياهو المسؤولية في السر، ويفعلون العكس في العلن متهمين حماس بالعناد في مواقفها.
يضع الناطقون باسم اليمين الإسرائيلي المتطرف قضية إطلاق سراح المحتجزين في تناقض مع هدف الحرب الآخر، والأهم بالنسبة لهم، وهو القضاء على القدرات العسكرية والسلطوية لحركة حماس، ويرددون أن الصفقة تعني وقف الحرب، ويترتب عليه بقاء حماس كقوة عسكرية تحكم غزة بشكل مباشر، أو غير مباشر، وهم ينادون بمواصلة الحرب لسنوات لتحقيق أهدافها، ومنهم من يجاهر بالدعوة إلى احتلال دائم لغزة وبناء مستوطنات في شمالها.
وإذا أخذنا هذه التصريحات بجدية، ولا سبب لعدم فعل ذلك، فإن حكومة نتنياهو ستسقط إن هي عقدت صفقة تبادل. وقد أضاف بعض المتحدثين اليمينيين بأن إطلاق سراح «ألف سنوار» في إطار الصفقة سيكون نهاية حكومة نتنياهو الحالية. ويمكن القول إن الرفض الإسرائيلي للصفقة متماسك بقدر تماسك الحكومة، خاصة أن نتنياهو نفسه لم يتخلّ عن هدفه المعلن بتحقيق «النصر المطلق» والقضاء الكامل على حماس. وفي المرحلة الحالية على الأقل، تنتظر إسرائيل قدوم ترامب لتتفق معه على سياسات وقرارات مشتركة ومتجانسة، وتفاؤل نتنياهو بقدوم ترامب هو مدعاة للقلق.
اقرأ أيضا| أين الحكومة من معاناة سكان غزة؟
لعل من اهم عوامل النجاح في التوصل إلى تسوية في لبنان، هو التوافق بين بايدن وترامب حول ضرورة إنهاء الحرب، وتفعيل الدبلوماسية الأمريكية بكل قوّة. ويبدو أن تأثير الإدارة المقبلة يفوق إدارة بايدن الحالية، وذهب معلّقون إسرائيليون إلى تقدير بأن نتنياهو استجاب لطلب ترامب أكثر مما هو تجاوب مع وساطة بايدن ومبعوثيه. ولكن ما حدث في لبنان لا ينسحب بالضرورة على غزة، لأن الموقف الإسرائيلي يختلف من حيث أهداف الحرب، ومن حيث رؤيا ما بعد الحرب. والمنطق الإسرائيلي المتنفّذ هو أن أحدا لن يجرؤ على المشاركة في إدارة غزّة والدخول في صدام مع حركة حماس، طالما هي بقيت تقف على رجليها، وعليه يجب مواصلة الحرب لأشهر ولسنوات حتى تحقيق هدف تقويض قدراتها العسكرية والسلطوية. وقد اصطدمت الوساطة الأمريكية والعربية إلى الآن بحائط حديدي وضعه نتنياهو لمنع أي تقدم بشأن إنهاء حرب الإبادة في غزة.
من الملاحظ أن ترامب لم يدع يوما الى تسوية وحل وسط في غزة، بل طالب بحسم سريع وإنهاء الحرب. هو يدعم بالكامل الرواية الإسرائيلية والممارسات الإجرامية الإسرائيلية، ولا يكلف نفسه عناء دفع ضريبة كلامية عن «تجنب المس بالمدنيين» كما فعل بايدن. وبما أن أي صفقة في غزة تتطلب تغييرا جذريا في موقف حكومة نتنياهو وليس متوقعا أن يتم ذلك بلا ضغط أمريكي فعلي، ولا يبدو أن ترامب سيفعلها ويضغط على نتنياهو، فإن من السذاجة الاعتقاد أن يأتي الفرج من الوافد الجديد إلى البيت الأبيض.
بعيدا عن التصريحات والبيانات واللقاءات فإن ما يحدث على الأرض في غزة هو الأهم وهو الحاسم. فحرب الإبادة الجماعية مستمرة، والدمار الشامل يزداد دمارا، والقتل والتشريد والتجويع وخنق أسباب الحياة، كلها مستمرة والمآسي تتراكم لتخلق كارثة كبرى، وحكومة نتنياهو تصرّح علنا بأنها تريد المزيد من كل هذا. الاتجاه الفعلي للأمور هو احتلال دائم ودام لغزة قد يلحقه استيطان مع الاحتفاظ بخيار التهجير كمشروع ينتظر فرصة للتنفيذ. يجب الانتباه إلى أن احتلالا واستيطانا في غزة لن يكونا بقرار رسمي، بل بخلق واقع على الأرض، وهذا ما ستقوم به إسرائيل إن لم تجد من يوقفها عند حدّها.
الأصوات التي نسمعها عن إمكانية التوصل الى صفقة تبادل، هي أصوات مختلطة، منها ما هو حقيقي وفعلي وتعكس جهودا مخلصة، ومنها ما هو ضجة مصطنعة لخدمة مآرب نتنياهو وحكومته. وأحيانا يصعب التمييز بين الضجة الفعلية والضجة المفتعلة، وربما يكون الأصوب هو الالتفات إلى المواقف العلنية من القضايا المحورية وعدم المبالغة في أهمية «استعداد إسرائيل لإرسال وفد للتفاوض»، فهذا لا يعكس بالمرة تغييرا في الموقف، والدليل على توجه جدّي للتوصل الى اتفاق على صفقة هو خطاب سياسي مغاير يمهد الطريق لإقناع الرأي العام الإسرائيلي بضرورة الصفقة وبضرورة «دفع ثمنها»، وهذا لم نره ولم نسمع به ولم نسمع عنه.